– استعراض لديوان ( أستلُّ عطرا) – للشاعر والأديب فهيم أبو ركن –
تاريخ النشر: 19/02/21 | 7:45(بقلم: الدكتور حاتم جوعيه – المغار – الجليل )
مقدمة:
الشاعرُ والأديبُ والناقد والإعلامي الكبير الأستاذ فهيم أبو ركن يعتبرُ في طليعةِ الشعراء والأدباء المحليِين وركنا هامًّا من أركان الحركة الأدبية والثقافيَّة المحليَّة، وله مكانتهُ ودورهُ وحضوره المميز ونشاطه الكبير والدّؤوب في صدد نشر الثقافة والأدب المحلي. وهو صاحب جريدة الحديث الأسبوعيّة. لقد أصدر العديد من الدواوين الشعريَّة والكتب الأدبيَّة والقصص والروايات التي لاقت رواجا وشهرة واسعة – محليًّا وخارج البلاد.
سأتناولُ في هذه المقالة آخر ديوان أصدره حتى الآن بعنوان (أستلُّ عطرا) مع الاستعراض والتحليل.
مدخل:
يقعُ هذا الديوان في 130 صفحة من الحجم المتوسط، صدر عن “دار الحديث للإعلام والطباعة والنشر” – عسفيا لصاحبها فهيم أبو ركن، لوحة الغلاف: الفنانة سلوى عثمان، والتصميم الداخلي الفنانة ملكة زاهر. ويوجدُ مقدمتان للديوان – الأولى استهلال بقلم صاحب الديوان فهيم أبو ركن والمقدمة الثانية بقلم: الدكتورة جهينة خطيب.
يهدي الشاعرُ هذا الديوان إلى كلِّ من يحملُ في قلبه قبسا من نور المحبَّة، يترجمهُ سلوكا إنسانيًّا حضاريًّا راقيا.. ويهديه أيضا إلى زوجتهِ وأبنائهِ وأنسبائهِ.. شركائه في درب الحياة.. وإلى كل الأصدقاء.
يغلبُ على العديد من قصائد هذا الديوان (أستلُّ عطرا) الأساليب الإنشائيَّة وكأنها مبنيَّةٌعلى أسئلة وهذه الأسئلة جزء كبيرمنها أسئلة إستنكاريَّة، وفيها التعبيرعن إستياء الذات الشاعريَّة المرهفة والحسَّاسة مما يجري من أحداث جسام في هذا العالم – وكما تؤكد هذا الكلام الدكتورة جهينة خطيب في مقدمتها للديوان… وتبدو الأسئلة الإنشائيَّة بشكل واضح ومباشر في قصائد: مرثية لسميح القاسم (صفحة 97 – 106).. و (أمة العرب – صفحة 31 – 38).. وقصيدة في رثاء محمود درويش (صفحة 107- 118). ويستعملُ الشاعرُ في قصائدهِ أسلوبَ السهل الممتنع الذي يجذبُ القارئ ويشغل تفكيرَه ويلهبُ مشاعرَه، ويوظف أدوات النداء والاستفهام بكثرة.
إنَّ قصيدته في رثاء الشاعر محمود درويش (صفحة 108) يستعملُ فيها المضارع المقترن بلام الأمر: ( فلأعدْ لدقائقي الرّتيبةْ).. ( فلأكتب عن الأولمبياد).. إلخ. وفي هذا الاستخدام والتوظيف الإثباتُ والتأكيد على انَّ عطرَ درويش قد سبقهُ وليس هنالك حاجة لكي يذكره. ويلتمسُ القارئ هنا نبرة اللوم والعتاب، حيث إِنَّ الشاعر يلوم نفسه لرثائهِ لمحمود درويش لأن المرحوم بأريجه وعطره الفواح جعل العالم وجميع الناس ترثيه بقلوبها ووجدانها ومن غير أن يكتب عنه حرفا واحدا.. ( كما جاء في مقدمة الدكتورة جهينة خطيب للديوان).
أما عنوان الكتاب “أستل عطرا” فهو ليس عنوان لقصيدة رئيسية كما يعتاد أن يفعل الشعراء، بل هو مأخوذ من جملة من داخل قصيدة “في رثاء سميح القاسم” فيقول مخاطبا المرحوم القاسم:
يا من خُلقت من كفاح
أستل عطرا منك فاح
في هذه القصيدة كما في باقي قصائد الديوان استعمالات مبتكرة وانزياحات جديدة مدهشة مما يضيف للديوان قيمة مضافة، فعلى سبيل المثال لا الحصر في هذه القصيدة يقول مخاطبا سميح القاسم:
أَتَذَكَّرُكَ وَأَشْتَاقُ إِلَيْكَ
وَالْوَطَنُ السَّاكِنُ فِي عَيْنَيْكَ
يَتُوقُ لِصَوْتِكَ: “لَبَّيْكَ.. لَبَّيْكَ!”
سَيَبْقَى طَيْفَ مَجْدٍ فَوْقَ التِّلَالِ
يُقَارِعُ.. يُصَارِعُ..
يُكَافِحُ .. يُصَافِحُ..
يَصُولُ.. يَجُولُ..
مَعَكَ فِيكَ وَبَيْنَ يَدَيْكَ
فِي الأَرْضِ، فَوْقَ السَّحَابْ…
قَبْلَ الْإِيَابِ وَبَعْدَ الْغِيَابْ
يَذْهَبُ مِنْكَ، يَلِفُّ حَوْلَكَ.. يَعُودُ إِلَيْكَ.
أَيُّهَا الْمُحَارِبْ
وَكُلُّ الْعَرَبِ لَكَ أَصْدِقَاءُ وَأَقَارِبْ
التكرار
ويستعملُ الشاعرُ أيضا أسلوبَ التكرار اللفظي في بعض القصائد ممَّا يُعطي جماليَّة وبعدا فنيًّا وانسيابا موسيقيًّا للجمل الشعريَّة. والتكرارُ عند الشاعر ظهرَ وبرزَ على عدة أنواع وأشكال، مثل:
1) تكرار جزء من الجملة – حيث يقول الشاعر:
(يا عقلُ اصحَ كفى تلميع أحذية = ليس السراب براوٍ ذلك البدن
يا عقلُ اصحَ كفى توبيخ أفئدةٍ — ليس العظيم بمرتاع من المحنِ)
يُكرِّرُ جزءًا من الجملة الأولى “الصدر” من كل بيت مع تغيير بسيط .. ويكرر أداة النداء (يا)… ويكرر أيضا في هذين البيتين هذه الكلمات مرتين، وهي: (اصحَ وكفى وليس). وهذا التكرار انبثق من جمل إنشائيّة طلبيَّة صاخبة تعلنها ثورةً عارمة وتدعو وتنادي إلى صحوة الأمَّة العربيَّة من نومها وسباتها الطويل.
2) تكرار الكلمة:- كما جاء في هذا المقطع الشعري:
(تفاءل // يتفاءلون // تفاءلوا وتفاءلوا وتفاءلوا). و (فاخرَ فاخرَ بالأمجاد وبأنغام الطربْ).
وتكرار الكلمة عند الشاعر جاء مكملا ومتمما لجمل إنشائيّة طلبيَّة.
ويؤكدُ الشاعرُ في قصيدته في رثاء محمود درويش إنه في النهاية لا يصحُّ إلا الصحيح والحق يأخذ مجراه والمياه سترجع إلى مجاريها.. وكأن الشاعر – بشكل تلقائي وغير مباشر – يعمل مقارنة بين حب وشغف وهوس الناس وولعهم بالأولمبياد الذي تتطلع ترنو وتشرئبُّ إليه كل العيون والأفئدة وحبهم لمحمود درويش.
3) تكرار الجملة مرتين أو ثلاث مرات ولعدة أغراض، مثل: لتناسق الكلام، للتأكيد، للاستيعاب، لزيادة التشويق، والترغيب في شيء ما.. ولاستمالة وجذب التخاطب – كقوله:
(نرفض أن نغادر// نرفض أن نغادر)و (وقتلَ في حلب
قُتِلَ في حلب) و (لن تقتلوا فيّ الروح // لن تقتلوا فيَّ الروح).
الرموز التاريخية والتراثية والاسطورية:
هذا ويوظف الشاعرُ في ديوانه هذا العديد من الشخصيات التاريخية والأسطوريّة واللاهوتيّة، مثل: النبي أيوب، عشتاروت، قيس وليلى، سيزيف، حصان طروادة ورابعة العدويَّة .. إلخ، ليصل إلى الفحوى والهدف والمعنى المنشود الذي يبتغيه وليعبِّرَ وليفصحَ عن ألمهِ وتذمُّرهِ من هذا العصر والزمن السوداوي، وخاصة وضع العالم العربي اليوم.. ومع كلِّ مرارة الألم والامتعاض والتذمُّر يبقى بصيصُ الأمل ونبرة التفاؤل والنظرة الإيجابية الإشراقيَّة موجودة ومشعَّة عند شاعرنا المبدع فهيم أبو ركن.
التركيب البنيوي للقصائد:
إذا نظرنا من ناحية الشكل والبناء الخارجي لقصائد هذا للديوان فهي تنتمي إلى ثلاثة أنماط وألوان:
1) الشعر الكلاسيكي العمودي.
2) شعر التفعيلة.
3) قصائد قريبة جدا في بنائها لشعر التفعيلة بيد أنها لا تتقيَّدُ وتلتزم بوزن وجرس واحد في بعض الجمل الشعريَّة.
الوطنيات
وهذا الديوان من أفضل وأرقى الدواوين الشعريَّة التي صدرت محليًّا.. فهو يزخر بالقصائد الوطنية الجميلة التي تتميز بمصداقية شعورية وبراعة تعبيرية.
سأستعرض بعض القصائد منه مع التحليل والشرح الوافي. ومن خلال استعراضي لبعض القصائد سأتطرق لظواهر إبداعية مختلفة مثل الجناس والإيحاء وتوظيف الرموز التاريخية أو الدينية أو الأسطورية أو التراثية في مختلف القصائد، وسأبدأ بقصيدة: “الركض نحو النار” صفحة 25)، وهذه القصيدة وطنيّة من الدرجة الأولى، وهي ضمير ولسان حال كلِّ فلسطينيٍّ وطنيِّ حرٍّ وشريف ثائر ومناضل لا يخشى الموت…. وكل إنسان على هذه الأرض يكافح ويخوض غمار المعمعان واللهيب من أجل الدفاع عن إنسانيَّته ووجوده وحقه في الحياة والماء والهواء ولتحرير أرضه ووطنه.. ويخاطب الشاعر الإنسان الفلسطيني المقاوم ويتحدث على لسانه موجها كلامه للعدو المغتصب أيضا: إنه فاتح صدره للرصاص ولن يخشى الموت، وإن العدو لن يقتل فيهِ روح المقاومة وحتى إذا أثخنوا جسده بالجراح من وابل الرصاص فلا يشعر أنه مجروح ونازف ومتألم، حيث يقول:
(هذا أنا أفتحُ صدري // فأطلقوا نحوي النار)
ويشير الشاعرُ في القصيدة إلى حبِّ وعشق الإنسان الفلسطيني لأرضه وبلاده… ويستعملُ نماذجَ من الطبيعة للتأكيد على هذا العشق والهيام، مثل: التلال، موج البحار، الشجر، زهر الحوض في الدار، فيقول:
(“أنا على التلال صخر وموجٌ في البحار” – صفحة 25)
ويتحدَّثُ عن الموتِ والشهادة بشكل غير مباشر فيقول بنبرة حماسية عالية تثيرُ وتهيجُ المشاعرَ وكأنَّ هذه القصيدة قد كتبت عن الانتفاضة المباركة الأولى للشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع فتندِّدُ بالاحتلال والظلم والاستبداد، ومنطلقها ومفادها لأجل الكرامة والعزة والحريَّة والإباء لأجل تحرير الوطن المسلوب..
وهذه القصيدة دائرية في أسلوبها وبنائها حيث تبدأ بموضوع وتنتهي وتقفل بنفس الموضوع – (صفحة 30) حيث يقول:
(ها أنا أفتحُ صدري
فأطلقوا نحوهُ النارْ
لن تقتلوا فيَّ الروحَ
وإن أثخنتمُ الجسد
لن تقتلوا فيّ الروح // لن تقتلوا فيَّ الروح
فيَّ الروح
فيَّ الروح).
وإلى قصيدة وطنية أخرى من الديوان بعنوان: أمة العرب – (صفحة 21 – 38).. وهذه القصيدة وطنية حماسية يشوبها طابعُ التهكم والتذمر والرفض للواقع الأليم والمزري الذي يهيمنُ اليوم على الأمة العربية والشرق من ذلٍّ وخنوع واستسلام .. يقول في القصيدة:
(أنقذيني يا أمة العرب//
سبقتني الحضاراتُ بآلافِ الحقَبْ//
يذكر كيف أنَّ العرب ما زالوا وللأسف يعيشون في أحلام وأمجاد الماضي الغابر والتاريخ القديم ولا ينظرون ولا يفكرون في واقعهم المرير الآن وفي المحاولة على الخروج من هذا الواقع وبإرجاع الحضارة التي عفى عليها الزمن وأكل الدهر عليها وشرب.. والقصيدة منبريَّة وحماسيَّة في أسلوبها وطابعها وتوجُّهِها. يخاطبُ فيها الشاعرُ الأمة العربيَّة من المحيط إلى الخليج، فيقول:
(أنقذيني يا أمَّة العرب// أنقذيني يا أمَة العرب) .. جاء تكرار الجمل هنا للحثِّ وللتأكيد على الطلب:
ساح قلبي
فاخرَ فاخرَ بالأمجاد وبأنغام الطربْ
النُّورُهَا عنّا غرب..
(أي التي نورها غرب عن العرب) … وحذف هنا كلمة التي “الاسم الموصول” واكتفى باستعمال أل التعريف مكانها وهي تعطي نفس المعنى).
ويقولُ الشاعر:
(يا أمَّة العرب
المجدُ ماتَ في دمشق …
في اليمن// في بغداد// وقتلَ في حلب
قُتِلَ في حلب
يا أمَّتي يا … أمَّة العرب).
يذكرُ الشاعرُ أسماءَ بعض العواصم العربيَّة للتأكيد على المعنى المنشود وفداحة الخطب والمأساة، وأن الوضع الكارثي موجود في كل مكان وكل بقعة في العالم العربي وفي كل عاصمة عربيَّة.
ويتساءلُ الشاعرُ بغرابةٍ كيف جاء الذلُّ والهوان والخنوع وهبط على الأمة العربية، وضربها الذلُّ بسوطهِ وكرباجهِ وودَّعتِ العروبةُ كلَّ معاني الكرامة الفخر والعزَّة والإباء.. مع أنها عاشت حقبا ودهورا طويلة مسربة بالمجد السؤدد والعزّة والفخار.
وفي هذه المقاطع من القصيدة يجسِّدُ الشاعر فحوى الموضوع حيث يقول: (صفحة 32):
(كيفَ جاءَ الليلُ
وبسوطِهِ ضرَبْ
فرَّ من الوجهِ ماؤُهُ
على متاهاتِ الفخرِ انسَكبْ
والحياءُ من عزَّتي هرَبْ
من ذاكرتي احتجَبْ
من خيوط عباءتي المجدُ
هرَّ / فرَّ مرَّ شرَّ// وانسَحبْ).
(ماذا سيقولُ الأبناءُ؟؟ // ماذا سيقولُ الأولادُ؟
كيفَ هذا التاريخُ انكتَبْ؟؟
ماذا…؟
ماذا سيسألُ الأحفادُ
كيفَ هذا المجُدُ انسَلبْ ؟؟؟
يا أمَّة العربْ …
ويستعملُ الشاعرُ هنا تعابير بلاغيَّة ربما يكونُ أولَ شاعر يطرقها ويستعملها، وتبدو للقارئ العادي كأنها كلمات ومصطلحات عاديَّة.. حيث يقول:
(يا أمَّةَ العرب // يا أمَّةَ العرَبْ
هل أصابَ هِمَّتنا داءُ الكلبْ؟
هل غزا عزيمتَنا لونُ الجرَبْ؟).
.. أي يستعملُ مصطلحَ وتشبيه (داء الكلب) كتوظيف دلالي للتأكيد على ضمور وفتور همَّة الأمة العربيَّة.. ويوظفُ داءَ الجرب ولون الجرب ليُشيرَ إلى منظر وشكل العزيمة العربيَّة اليوم ولونها الكئيب والبائس والشاحب. وهذه التشبيهات والاستعارات وغيرها المنثورة في الكتاب جديدة لم تستعمل من قبل كما يبدو، وهي تشبيهات موفقة وجميلة ويشوبها طابع التهكُّم والسخريَّة من الواقع والوضع المزري والمشين اليوم.
ويقولُ الشاعرُ أيضا – استمرارا للمعنى السابق:
(هلْ نحنُ أمَّةُ الكسَلْ
هلْ نحنُ شعبُ الفشَلْ
هلْ نحنُ دوَّامةٌ بلا أملْ
هلْ نحنُ قولٌ بلا عملْ
نُفسِدُ نعمةَ اللهِ ومَا وَهَبْ ..
يا أمَّتي // يا أمَّةَ العربْ)
يسألُ الشاعر هنا في هذه الجمل الشعريَّة أسئلة استنكارية مكررا فيها أداة السؤال مع كلمة نحن – ضمير الجماعة (هل نحن) في مطلع كل جملة للإلحاح والحَثّ على جواب السؤال.. والجواب معروف بديهيًّا وهو سلبيٌّ.. أي لا أمل ولا رجاء من تصحيح وتغيير الوضع العربي اليوم في هذه الأوقات على جميع الأصعدة، وأهمها السياسية والاجتماعيَّة، وأن الأمة العربيَّة تفسدُ نعمة الله وما وهب، لأن الله جلت قدرته وهب للبشرية كل شيء على هذه الأرض.. وعلى الإنسان أن يسعى ويعمل ويتعب ويكد لكي يقطف الثمار ويحقق الإنجازات في كل مجال.. ولكن الشعب العربي قابع ومستمرٌّ في الخمول والكسل، وكأنهُ يفسدُ نعمة الله وما وهبه من خيرات لبني البشر.
ويريدُ أن يقول: إنَّ الأمَّة العربيَّة اليوم تعيش في الأحلام والخيال وهي مخدرَّة بأطياف الماضي والتاريخ الغابر.. ويجب ان تنهض من سباتها وتعمل على تطوير نفسها في جميع المجالات وتواكب متطلبات وتطورات وتقنيات وإنجازات العصر الحديث أسوة بباقي الامم المتحضرة المتطورة اليوم.
ويقولُ الشاعرُ:
(نحنُ شعبُ الأوووووفُ والموااااال
نحنُ شعبُ الخيال
نحنُ خبراءُ الاحتيال،
واللوم والعَتبْ
على السرابْ نشيِّدُ صروحَ الآمالِ
على السَّحابِ نبني القصورَ
نزرعُ في التلالِ
شوقا للصَّخَبْ).
ويكرِّرُ ويؤكد هنا المعنى السابق وأنَّ الأُمَّة العربيَّة ما زالت تعيش في الخيال والأحلام، وتعشقُ الغناءَ والطرب والرقص.. وكرَّرَ الشاعرُ في كلمة (الأوف) حرف الواو عدة مرات.. وفي كلمة (الموال) حرف الألف أيضا عدة مرات لأجل التهكم والسخرية ومجانسة الشكل للمعنى وتصويره وترجمته بالكتابة لمحاكاة الصوت.. وليشير وليؤكد أن العرب اليوم همهم وهاجسهم هو الطعام والرقص.. يرقصون ويقفزون لأية طبلة أو دربكة.
ويقول الشاعر في القصيدة مشيرا إلى التخاذل والخيانة والانهزامية – صفحة 36:
(جئنا نعلنُ عن حبِّنا
أشهرنا الحربَ على خصمنا
لكن سرعان ما علينا نصفنا انقلب
نصفنا انقلب
ونصفُ نصفنا
بلمحِ البرقِ انسَحَبْ
فلا عَجَبْ
لا عجَبْ).
إنَّ أسلوبَ الشاعر هنا قريب جدا إلى أسلوب الشاعر العربي الكبير المغترب (أحمد مطر) في قصائدهِ اللاذعة التي ينتقدُ فيها الأنظمة العربيّة الدكتاتوريَّة القمعيَّة والوضع العربي الأليم.
ويقولُ الشاعرُ أيضا:
(يا أمَّةَ العربْ
لا عجبَ.. لا عجَبْ
إنِ اكتشفَ السّنديانُ
أنَّ جذعَهُ انعَطبْ
أصبحَ لا يصلحُ إلا للحَطبْ
إلَّا للحطبْ!!).
يوظفُ الشاعرُ هنا شجرَ السنديان المعروف بصلابتهِ وقوة جذورهِ وتشبُّثهِ القوي والأسطوري بالأرض، والسنديانُ كالزيتون هو دائما شعارٌ ورمزٌ للوطن ورمزٌ للإنسان الفلسطيني المحب والعاشق لأرضهِ وبلادهِ والمتشبِّث بترابِ أرضهِ وأرض آبائه ِوأجدادهِ الطاهر. ويقولُ الشاعرُ: إنَّ السنديان أصبحَ جذعُهُ ليّنا وأصابَهُ العطبُ ولم يعد صلدا قويا.. وهذا هو حالُ ووضعُ الأمَّةِ العربيَّة اليوم وبكل وضوح.
ثم يقول الشاعرُ:
(على هودج القافيةِ خُطّ مجدُنا
خُطَّ بالياقوتْ
بالحبر على رأس الهُدبْ
بكبسةِ زرٍّ // بشلِّ ذراعٍ
بجرَّةِ يراعٍ
وخطبةِ داعِ
زُيِّفَ ما انكتبْ
واليوم انشطبْ // ضاعتِ الرُّتبْ
تاريخنا انتهبْ
لا ماض يشفعُ // لا أملٌ مُرتقبْ
زورقُ نجاتِنا
شراعُهُ مٌزِّقَ // قاعُهُ انقلبْ
يا أمتي // يا أمَّة َ العربْ
فهل من أرَبْ).
في تلميح وانزياح مبتكر، استعمل الشاعر عبارة ومصطلحَ (هودج القافية) كتشبيه وتعبير مجازي ملائم يعني فيه من ناحية لُغوية الشعرَ التقليدي القديم الجامد وغير المتطور في مواضيعه وأبعاده وأهدافه ومستواه الفني.. ومن ناحية اجتماعية واقعية يرمز أيضا لكل شيء وكل أمر وكل فكر متحجر وغير متطور، تقدمي وحضاري.. والهودجُ كان يوضع قديما على الجمل وتجلس فيه المرأة، وهو لم يعد موجودًا ولا يستعمل اليوم. ولم يقل الشاعرُ سيارة أو قطار أو طائرة القصيدة.. لأن الشاعر يشير إلى القديم والبالي والتأخر والبدائيَّة – سواء في الشعر والنظم والفن.. أو في باقي المجالات الأخرى؛ العلمية، الثقافية والاجتماعية.. إلخ… وأن حضارات العرب وتاريخهم ورقيهم قد إنتهوا وانقرضوا على أيدي الاستعمار والمحتلين – سواء الأتراك أو الغرب.. وكأنه بكبسة وضغطة زر انتهى كل شيء لدى العرب بعد أن كان عندهم كل الرقي والتطور والتقدم والتحضر الذي يضربُ به المثلُ. ومن حضاراتهم المنقرضة كانت قد نهلت وأخذت جميع شعوب الأرض.. ويتساءل الشاعر: لا يعقل! كيف كانوا في القمة واليوم رجعوا مئات السنين إلى الوراء بدل أن يتابعوا مشوارهم الحضاري المشرق ويتقدموا إلى الأمام في مسيرة العلم والحضارة والرقي والإبداع والمجد المشع…؟ وينهي الشاعرُ هذه القصيدة بنبرة كلها يأس وألم ومرارة.. ويرى أنه لا أمل ولا رجاء من العروبة اليوم ومن تغير الوضع في العالم العربي؛ سياسيا، اجتماعيا، إنسانيًّا وتكنولوجيا، وهذه القصيدة على عكس الكثير من قصائد فهيم أبو ركن التي يشوبها التفاؤل والطابع المشرق والأمل.
ورغم كل المرارة والألم، الخيبة من العرب والعتب عليهم، لا يتنكر الشاعر لعروبته لأنه يكرر الاعتراف بأنها أمته، فيناديها عدة مرات: “يا أمتي يا أمة العرب”، فهو يؤكد على انتمائه ويفتخر به بطريقة غير مباشرة، ولا يخجل به.
وإلى قصيدة وطنية أخرى من الديوان بعنوان: (لسنا محطة – صفحة 39 – 40) وفيها يظهر الأمل والتفاؤل، وهي على عكس القصيدة السابقة، وأن الشاعر مقيمٌ ومتشبث بأرضه ووطنه:
(دعاني الخوفُ لأهاجر
دعاني اليأسُ لأغادر
لكنني اقسمتُ ألا أتركَ وطني
وأن أتغلّب على وهني
وهني المتجذر // منذ عصور غابرَهْ
أقسمتُ … رغمَ القوانين الجائرَةْ
بالحكمةِ اقسَمتْ
وبالأمثالِ السائرَهْ
لنْ أكونَ وَهمًا
أو محطةً عابرَهْ).
وهذه القصيدة هي لسان حال كل إنسان فلسطيني حر وشريف وأبي – سواء كان يعيش في منطقة الحكم الذاتي (الضفة والقطاع).. أو داخل الخط الأخضر (عرب ال 48) وأنه سيبقى متمسكا ومتشبثا بتراب أرضه ووطنه ولن يغادر ويهجر بلاده وترابها الطاهر المقدس مهما لاقى وواجه من صعاب وخطوب وآلام.. وأنه ليس مجرَّد محطة عابرة.. والمقصود تلقائيًّا وطنه وبلاده التي ليست محطة عابرة ويتركها متى يشاء وينتقل بعد فترة قصيرة لمحطة ولبلدة ودولة أخرى.. بل إنه مقيم إقامة أبديَّة في بلاده. ونهاية القصيدة (لن نكون وهمًا // أو محطةً عابرة) تذكرنا بما قاله الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش قبل أكثر من 50 سنة وقبل مغادرته للبلاد:
(أيُّها الجرحُ الكابرْ// وطني ليسَ حقيبهْ
وأنا لستُ مسافرْ
إنّني العاشقُ والأرضُ الحبيبةْ).
وفي قصيدة (روح الوطن – صفحة 41 – 42) يرى الشاعرُ في الحبيبة الأرضَ والوطن والانتماء – الفكرة والنظرة التي كانت لدى شعراء المقاومة الفلسطينيين الذين في العديد من قصائدهم الوطنية والحماسية التي خاطبوا فيها وجدان شعبهم وجسدوا مشاعر وتطلعات شعبهم الفلسطيني – شبَّهُوا فتاة أحلامهم الحبيبة الجميلة والرائعة بالأرض والوطن.. وهذه الحبيبة عند شاعرنا فهيم أبو ركن هي كل شيء بالنسبةِ له، هي الأمل والهويَّة والانتماء، إكسير الحياة والوجود.. وعندما تذهبُ وتغادر الحبيبةُ يشعر أنه غريبٌ تائهٌ يحمل على كتفيه الكفن، وذلك من شدَّة الحزن واليأس والألم والضياع.. وهذا الشعور الذي يحسُّهُ تجاهها عندما ابتعدت عنه ليس لأنه أصبح بلا حبيبة، بل لأنه غدا بلا وطن.. أي أن الحبيبة هي الأرض والوطن والانتماء.
(عندما تذهبين
أشعرُ أنَّني غريبْ
أحملُ على كتفي الكفنْ
ليسَ لأنني بلا حبيب
بل لأنَّني بلا وطنْ
ويقول أيضا في القصيدة:
(فللوطن أنتِ الوجيبْ
والقلبُ مع كلِّ الوُتِنْ
أنتِ لهُ روحُ الوطنْ).
.. أي أن الحبيبة هي القلب مع الشرايين الرئيسية النابضة.. والوتين هو الشريان الرئيسي الأقرب، الذي يضخ الدم من القلب لباقي أنحاء الجسم وإذا انقطع يصاب الإنسان بالنزيف ويموت.. والحبيبة عند شاعرنا ليست الوطن فقط بل هي روح الوطن.. وبدونها يكون هو بدون جذور وبدون وطن وانتماء.
وهذه القصيدة هي شبيهة بشعر الومضة أو البطاقة لقصرها وغزارة معانيها وأهادفها وأبعادها.. فالشاعر لخص وأوجز كل ما يريده بكلمات وجمل قصيرة.
وأما قصيدته (شام يا شام – صفحة – 43 – 44) فيتحدثُ فيهاعن الوضع الذي كان في سوريا قبل سنوات أثناء الحرب الأهلية.
وإلى قصيدة أخرى بعنوان: (مستعمر الأرض – صفحة 51 – 53) وهي قصيدة كلاسيكيَّة عموديَّة على بحر البسيط.. ويبدو فيها تأثُّرُ الشاعر بقصيدة أبي الطيب المتنبي التي مدح فيها سيف الدولة الحمداني، ومطلعها: واحَرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ = وَمَن بِجِسمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ).. والقصيدةُ جميلة وقويَّة ومتينة في بنائها وأسلوبها وعميقة في معانيها، وهي وطنيَّة حماسيَّة من الدرجة الأولى ومباشرة، ويخاطبُ الشاعرُ فيها المحتلَّ، وكلَّ محتل وظالم وغاصب ودكتاتور في هذا الكون، فيقول:
(مستعمرُ الأرضِ ذئبٌ تعرفُ الأكمُ — أهدافهُ والمعاصي عندهُ علمُ
“إذا رأيتَ نيوبَ” الذئبِ بارزةً — فليسَ عندَ ذئابٍ للسلامِ فمُ
.. يتحدَّثُ الشاعرُ عن الغاصب والمحتل والظالم عدو السلام والمحبَّة والإنسانيَّة الذي لا يعرفُ الحقَّ، وطرقهُ ومسلكهُ ونهجهُ كلهُ في المعاصي والضلال والآثام والإجرام، وَيُشَبِّهُهُ بالذئب المفترس. والشطرةُ الأولى في البيت الثاني من القصيدة قريبة جدا في النص لبيت للمتنبي، لذلك وضعها الشاعر بين هلالين ليُعَرِّفَ القارئ بأنها ليست من تأليفه، وهي اقتباس، وهذا يدل على الأمانة الأدبية التي يلتزم بها الشاعر. والشاعر فهيم وَظّفَ كلمة الذئب بدل كلمة الليث عند المتنبي.. والمعنى عند فهيم أعمق وأشمل ويحمل بعدا إنسانيًّا عميقا وأمميا شاملا ويختلف كثيرا عن المعنى في بيت المتنبي.. حيث أن الفكرة عند المتنبي محصورة، والمعنى محدود في إطار ضيِّق وعلى المستوى الشخصي والذاتي فقط لا أكثر، يقول المتنبي:
(إذا رأيت نيوب الليث بارزة — فلا تظنن أن الليث يبتسم)
المعنى عند المتنبي يتمحورُ حول الشراسة واللؤم والحقد والعدوانية الخاصة، فيتحدثُ عن الشخص اللئيم والحقود والشرير.. وأنه ليس كل شخص يبتسم للآخر تكون ابتسامته عن محبة.. بل قد تكون ابتسامة خادعة.. كالأسد عندما يفتح فمه وتبدو أنيابه فهو لا يكون عندها مبتسما بل للتهيؤ والانقضاض على فريسة معينة.. فالمعنى هنا محصور بالمظهر الخادع، وأما عند فهيم فالمعنى والفحوى أعمّ ولهما أبعاد أخرى – كما ذكر أعلاه – .. فهو يقصدُ الطغيانَ والإستعمار وأعداءَ الإنسانية والمحبة والسلام الذين لا يريدون الخير والأمن والسعادة والسكينة والهناء لغيرهم من البشر والشعوب الأخرى… وقد وظف فهيم هذه الشطرة من بيت المتنبِي (حسب نظرية التناص التي سيأتي ذكرها لاحقا) مع تغيير طفيف كاستعارة وكتوظيف دلالي ليصل للموضوع والفكرة وللهدف المنشود.
وفي القصيدة يظهرُ بوضوح حبُّ الوطن والأرض الانتماء.. ويذكر الشاعرُ في القصيدة الكرمل – مسقط رأس الشاعر.. حيث أن الشاعر يسكنُ قرية عسفيا التي تقع على سفح جبل الكرمل. ويذكرُ أيضا الجليلَ ويذكرُ الشهيدَ الذي بذل دماءَهُ الزكيَّة الطاهرةَ للذودِ عن تراب وطنه المقدس. وفي الأبيات الأخيرة من القصيدة تبدو نبرة القوة والأمل والتفاؤل والتأكيد بانتصار الحق على الباطل والنور على الظلام.
(واليوم فتياننا أسدٌ على جبلٍ — ككرملٍ شامخٍ فيهِ العُلا قمَمُ)
وهذه القصيدة جميلة وقويّة ومتيتة في بنائها وأسلوبها وغنيَّة بمواضيعها وأهدافها وبصورها الشعريَّة الخلابة، ولكن هنالك خروج بسيط عن الوزن في بعض الأبيات، مثلا في قوله:
(نحنُ الزعافُ دماؤنا إذا وهمُوا)
ولو قال: (نحنُ الزعافُ دمانا إذا هُمُ وهمُوا) لاستقام الوزن مئة بالمئة.
ويبدو أيضا تأثر الأستاذ فهيم بأبي الطيب المتنبي في قوله الشهير:
(الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني – والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ)
يقولُ فهيم:
(الخيلُ والليلُ والأشجارُ تعرفُنا – والتلُّ والبحرُ والإعصارُ والنَّسَمُ)
ومرة أخرى تظهر شمولية المعنى في قول فهيم الذي استعمل ضمير المتكلم للجمع في كلمة “تَعْرفُنا” يقصد أفراد شعبه، ولم يحجِّمها لضمير المتكلم المفرد كما عند المتنبي “تَعرفُني”! لتعني شخصا واحدا، فالجمع أعم من المفرد.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن توظيف معنى أو كلمة قالها شاعر آخر يسمى في اللغة النقدية التَّناص.. حيث يستعين شاعر أو يخطر على باله قول شاعر سبقه فتأثر به أو أراد أن يلبسه عباءة أخرى من العبارات والمعاني فيُضَمّن قصيدته به، وهذا مقبول ومستحسن إذا كان يخدم المغزى والمعنى، وقد شهدنا العديد من هذا القبيل لشعراء مشهورين وأولهم المتنبي الذي استخدم أسلوب التناص وفي نفس البيت، فقد سبقه شاعر الصعاليك عروة بن الورد الذي قال:
(الخيل والليل والبيداء تعرفني– لم تعرف البيد مثلي فارسا نجبا)
فقال المتنبي بيته المشهور.
والتناص يوظفه الكثير من الشعراء منذ القدم، ومنها كقول ابن الرومي:
لئن أخطأت في مدحك — ما أخطأت في منعي
قد أنزلت حاجاتي (بواد غير ذي زرع)
فقوله {بواد غير ذي زرع} اقتباس من القرآن الكريم من سورة إبراهيم:37
ومن أشهر الأمثلةِ المُعاصرة للتّناصِ، جدارية محمود درويش، فمثلًا حينَ يبلغُ اليأس – في نفس درويش – مداه، يقول:
باطلٌ… باطلُ الأباطيلِ باطلْ
كلّ شيءٍ على البسيطةِ زائلْ
حيثُ تناصَ درويش مع بيتِ لبيد بن أبي ربيعة:
ألا كلّ شيءٍ ما خلا اللهُ باطلُ
وكلّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ
للشاعر فهيم بعض القصائد في المناسبات العامَّة وغيرها، مثالٌ على ذلك: قصيدةٌ ألقيتْ في ندوة شعرية أقيمت في مدينة سخنين وقد خصصت الندوة للشعر الموزون (صفحة 63 – 64).. ويقول فيها:
(سخنينُ يا بلدَ الهمَمْ — جئنا نُحيِّي بالقلمْ
أترابَ شعرٍ ساحرٍ — بالعطرِ نكتبُ للكرمْ
بالحبِّ تروي ضَيْفَهَا — فيرفُّ فيها كالعلمْ
تتهامسُ الأرواحُ في — نفحاتِ أمجادِ القمَمْ)
في هذه القصيدة نرى التشجيع والحث على العلم والثقافة والمحبَّة.. ويتطرقُ الشاعرُ إلى حب الوطن والدفاع عن الأرض والذود عنها من خطر السلب والنهب من خلال حديثه عن مدينة سحنين المضيافة والتي كانت إحدى قرى يوم الأرض الخالد (عام 1976) والتي هبَّ سكانُها آنذاك مع قريتي عرابة ودير حنا للدافع عن أراضيهم المهددة بالمصادرة وقاوموا ببسالة القوات العسكريَة المدججة بالسلاح، التي دخلت قراهم لفرض مخطط مصادرة الأرض.
الشاعر ثمرة محيطه ومجتمعه
بعض الشعراء يقبعون في برج عاجي منفصلين عن واقعهم ومحيطهم، بينما الشاعر فهيم أبو ركن مرتبط بقضايا شعبه ووطنه، متأثر بها، يعبر عنها بكل مصداقية وشفافية وأسلوب رائع يلائم المعنى والمغزى. وقد أوردنا العديد منها من خلال استعراض نقاط أخرى أعلاه، ويظهر هذا واضحا جليا في قصيدة “يا عقل” التي يعبر فيها عن معاناة شعبه ويذكر قضايا الهدم والقوانين الجائرة بأسلوب جميل يؤكد ارتباطه بهموم مجتمعه، فيقول:
الهدم والحرب والقانون يلحقني = يا رب اشهد أنا المخدوع في وطني
أنا المواطن؟ في الأوراق أدرسها! = كما المسافر بين الحلم والوسن
في هذه القصيدة أجمل تعبير عن قضية ما زال يعاني منها مجتمعنا العربي منذ عشرات السنين.
أيضا في هذه القصيدة أسلوب نادر الاستعمال لا يجرؤ على اقتحامه إلا شاعر مقتدر ألا وهو أسلوب الأحجية، ففيها بيت هو عبارة عن أحجية، حيث يقول:
أرادني الكل كالآجال منعكسا — ثم اقلب الحزن حرفا لا يناسبني
وهو يقصد بالكل، الاستعمار والأنظمة أو الزعامة العربية، فقال في صدر البيت: “أرادني الكل كالآجال منعكسا!” فإذا عكسنا آجال تصبح الكلمة “لاجئ”! وفي عجز البيت قال: “ثم اقلب الحزن حرفا لا يناسبني”، فإذا قلبنا حروف “حزن” تصبح “نزح” والنزوح لا يلائم الشاعر وشعبه.
لهذا نجد الشاعر بذكاء واقتدار يختار لكل معنى الشكل الملائم، فمرة نشعر وكأن القصيدة تتزمل بعباءة تراثية تقليدية، ومرة ترتدي فستانا راقيا وتارة بدلة حديثة، وأخرى تنورة مزركشة حسب فحوى القصيدة.
الوجدانيات
ولهُ قصائد وجدانية جميلة جدا في الغزل منها (صفحة 67 – 68) بعنوان: (ملكة النور)، وهي عذبة الألفاظ، جميلة وسريعة الإيقاع، عميقة المعاني، صادقة وشفافة ووجدانية من الدرجة الأولى.. وَتُجَسِّدُ مشاعر وأحاسيس ولواعج كل عاشق متيم، وفيها الصورُ واللوحات الشعريَّة الفنيَّة الخلابة..
ويقولُ فيها:
(ترنو إليَّ فتختفي البُدورْ
أحاولُ ألا أغرَقْ
أتمرَّدُ أثورْ
أتشبَّثُ بباقاتِ الزهورْ
أحاولُ ألا أغرق
في عينيها شِعرٌ وبحورْ
بحورٌ بلا شطآن
يُجسِّدُ عطرَها الكافورْ
بلْ كلُّ العطورْ
يغفو فيها الزَّمان
يرتقي فيها المكانْ
ينتشي المُرجانْ
يرقصُ العنبرُ فيها
ويسكرُ البلورْ
يسافرُ الريحانْ
يحتضنُ قوافلَ النورْ
يا أميرةَ الجمالْ
يا مَلِكةَ الحور
أصبحتِ في قلبي زهرةَ
الأغصانِ والأفنانِ
وأعمقَ الجُذورْ
هذه القصيدةُ في منتهى العذوبة، الجمال والروعة، وفيها البعدُ الإنساني والفلسفي والنفحات الصوفيَّة.. وهي غنيَّة بالصور واللوحات الشعرية الجديدة الملونة والخلابة والاستعارات البلاغية المبتكرة. والقصيدة متسلسلة متجانسة ومتناغمة في معانيها وألفاظها وانسيابها وإيقاعاتها وجرسها الموسيقي .. تدخلُ تلقائيا إلى نفسية ووجدان القارئ وتحركُ مشاعرَه ووجدانه ولواعجه الذاتية، وخاصة إذا كان مرهفَ الحس أو عاشقا متيَّمًا.
وأما قصيدته (تطلِّين ولا تُطِيلين) صفحة 81 – 87) فهي جميلة أيضا وغنيّة وعميقة في معانيها وأبعادها الإنسانيَّة والوجدانيَّة.. وفيها الكثير من التشبيهات والاستعارات البلاغيّة الجديدة والصور الشعريَّة الجميلة. يقول فيها:
(تطلين على مشاعري دونَ استئذان
فجأة // كعطرٍ زانهُ الريحانْ
وتعبثينَ بشغافِ القلبْ
بينَ دفعٍ وجذبْ
بينَ إيجابٍ وَسَلبْ
تثيرينَ نشوةَ الألحانْ
فينساني الزَّمانُ والمكانْ).. إلخ.
وأما قصيدته التي بعنوان: (“عدويَّة” – صفحة 69 – 72) فيوظفُ فيها العديدَ من الأسماء والرموز التاريخيَّة والأسطوريَة وغيرها، مثل: عشتار، أريحا، سيزيف، جواد طروادة، النبي أيوب.. إلخ. وفي القصيدة توظيف وتناص مع آية قرآنيَّة مع تغيير طفيف: (اقتربتِ الساعةُ وانشقَّ الفلقْ).
ويقولُ في القصيدة:
(اقبِلي سحابةَ عطرٍ
واقبضي على لمعانٍ
بين الجفنينِ برَقْ
اسكبي جمرَ قلبٍ قيسيٍّ
على أفقٍ سابحٍ وقتَ الغروبْ
دمعٌ ينسكبُ على الصَّخرِ فيذوبْ
ودربُ إيقاعٍ باللوعةِ انطلقْ
يبغي الهروبْ
يخشى ألمَ أيُّوبْ
يهيمُ بجاريةٍ طروبْ
عبَرَتِ المُنْزَلقْ
ليست ثالثةً ولا خامسةً
قلبُها عن الزيفِ افترَقْ
أقسَمَتْ أن تتوبْ
فزمجرَ الطلقْ
“اقتربَتِ الساعةُ وانشقَّ الفلقْ…!”).
يلتزمُ الشاعرُ هنا في القافية بحرفَيْ رويّ، إذ يستعملُ فقط (القاف و/ أو الباء) في نهاية كل شطرة وجملة شعريَّة، ولهذا) جاءَت قفلات الأبيات جميلة الإيقاع وأعطت القصيدة رونقا وجمالا موسيقيا مميَّزا يطرب له القارئ. والقصيدة عميقة جدا في معانيها وأهدافها، ووظف الشاعرُ فيها العديد من الرموز الأسماء التاريخية والأسطورية واللاهوتية الموفقة.. وكان توظيفا موفقا مُتقنا وناجحا يوصل الفحوى والهدف المنشود للقارئ.
في هذه القصيدة نقطتان تجدر الإشارة إليهما، وهما، أولا: أهمية العنوان وأسلوب بنائه في القصيدة، وثانيا: التلميح الذكي الذي يحبه القارئ فيجعله يتفاعل مع النص ويشعر أنه يكتشف كنوزه ويسبر أعماقه.
أولا: في هذه القصيدة، العنوان جزء لا يتجزأ منها، فلا يمكن الاستغناء عنه أبدا، فعنوان القصيدة، كلمة “رابعة” لم تذكر في النص أو السياق بتاتا، ولكن بدونها لا تكتسب القصيدة قيمتها، وهذا يجعل العنوان جزءًا لا يتجزأ من القالب البنيوي للقصيدة.
ثانيا: يلمح الشاعر للقارئ ليتعرف على جوهر القصيدة ودلالاتها الرمزية، وليفهم أنه يتحدث عن المتصوفة “رابعة العدوية” وذلك حين يقول: “فهي ليست ثالثة ولا خامسة!” كما يقول: “جارية طروب” و “خيام صوفية الهوى” و “قلبها عن الزيف افترق” و “أقسمتْ أن تتوب”… هذه الدلالات والإشارات بالإضافة إلى العنوان تجعل القارئ يتفاعل ويتمتع باكتشاف أغوار القصيدة ومختلف معالمها.
وبمناسبة العنوان الذي يكون جزءًا لا يتجزأ من التركيب البنيوي للقصيدة، استعمله الشاعر أيضا في قصيدته “زنجي” في مجموعته الشعرية الموسومة بعنوان “في القدس العارية” حيث أنه اختار كلمة “زنجي” عنوانا للقصيدة ولم يذكر هذه الكلمة بتاتا في نص القصيدة التي تقول:
نظر عبر النافذة
وجوههم في الداخل
قصة فضية
وتفاصيل حب
دخل المقهى
اسودت وجوههم
ربما عكست لون بشرته
أو لون قلوبهم.
وأترك للقارئ أن يستنتج ويتمتع بهذه الصياغة الجميلة المقتضبة التي تحمل معانيَ إنسانية شاملة واحتجاجا على التعصب العرقي واستنكارا للعنصرية القومية.
فحين نظر عبر النافذة لم نعرف أي نافذة؟ وجاء الجواب حين قال: “دخل المقهى”، فعرفنا أنها نافذة المقهى، كذلك لم نعرف لماذا العنوان “زنجي” حتى قرأنا:
اسودت وجوههم
ربما عكست لون بشرته!
هذه قمة التعبير والإيحاء بما قل ودل، حيث تتكاثف الصورة تصاعدا من جملة إلى أخرى لتصل قمة الإيحاء في نقطة التنوير التي تشكل انبثاقا زاخرا للأفكار حين ينهي القصيدة بهذه الدرامية المؤثرة فيقول:
“ربما عكست لون بشرته
أو لون قلوبهم”.
الشعور الإنساني الشامل
كما نلاحظ فإن الشعور الإنساني الشامل، الذي ينبذ التزمت والتطرف، ويشجب الطائفية والفئوية، غير المتقوقع في العنصرية الدينية أو التعصب الإقليمي، هذا الشعور منتشر في معظم قصائد الشاعر، تفوح منه رائحة التسامح والمحبة، ونأخذ كنموذج لذلك قصيدته (جهابذة القريض – صفحة 57 – 61)، فقد جاء عنوانها ملائما لطابعها وفحواها…. وتظهر فيها مقدرةُ الشاعر وطاقتهُ وبراعته وعبقريته في نظم القصيدة الكلاسيكيَّة والإبداع والتفنن فيها من ناحية الشكل والبناء، كما تظهر مشاعره الإنسانية السامية فيها.
القصيدة على بحر الوافر… والبيت الأول من القصيدة قريب في بنائه ونكهته إلى شعر الزجل .. وافتتاحيات ومطالع القصائد الزجليَّة:
(دعاني الشعرُ من بحري دعاني — لبحرٍ وافرٍ فيضِ المعاني)
… وهذا الوزن (الوافر) يُستعمَلُ أيضا في الشعر الزجلي.. ولكن يحمل اسما آخر. ويسكبُ الشاعر في هذه القصيدة زفرات ولواعج قلبه وروحه ووجدانه، وفيها الحنينُ إلى الوطن. ويتحدثُ الشاعر عن السلام والمحبَّة.. ويتألقُ ويسمو حبُّ الوطن عند الشاعر في هذه الابيات (صفحة 61):
(نعانقُ عطرَ كرملِنا ونبني = على أمجادِنا مَجْدَ الزّمانِ
ومن صخرِ الجليلِ عَصرت زيتًا = تدافع صامدًا كالسّنْدِيَانِ
ونجدُ في القصيدة الانسياب الموسيقي الرائع والتناغم بين المعاني والألفاظ.. ومن الأبيات المميزة في القصيدة مثلا:
(هي الأحلامُ تجري! كيفَ تجري؟ — تسابقُ وحيَ أنفاسَ الدّنانِ
هما الحُبُّ الجسو رُ عشيقَ مجدٍ — ومجدٌ عاشقٌ ، يا نعمَ ذانِ
فمرَّ الوجدُ في الأكبادِ يسري — مُرُورَ البُلبلِ الشادي ببَانِ
وباتَ الصبحُ في معنى الزّهورِ — وأضحى الزَهرُ في صبحِ المعاني
هو الإلهامُ يُصبحُ ثمّ يُمسي — عليكَ بفيضِ أشعار ِ الحنانِ
ويظهر عنصرُ الإيمان في القصيدة والدعوة إلى السلام والمحبَّة ويستشهدُ الشاعرُ بالكتب المقدسة في قوله:
(وعينُ الله ترعانا وتهدي — كما التوراةُ والإنجيلُ ثاني
وبالقرآنِ نحفظهُ خُشوعًا — ويحفظنا بترتيل الأذانِ
فإن كانَ السَّلامُ بشيرَ خيرٍ — فخيرُ السِّلمِ تحقيقُ الأماني
وهذه القصيدةُ إذا نظرنا إليها من جميع النواحي والجوانب والأسس والمفاهيم النقدية – القديمة والحديثة – تُعتبرُ روعةً وقمَّةً في صددِ الشعر الكلاسيكي الحديث المُترع والمُشع بالتألق والحداثة والإبداع. وتضاهي هذه القصيدة من ناحية المستوى روائع ما كتبهُ الجهابذةُ والعمالقة وكبارُ الشعراء الكلاسيكيين في هذا العصر.. وتذكرنا بروائع العمالقة الكبار، مثل: أحمد شوقي، البارودي، حافظ إبراهيم، خليل مطران، إبراهيم طوقان، الأخطل الصغير، أبي القاسم الشابي وعبدالله البردوني.. إلخ.
وأخيرا: سأكتفي بهذا القدر من استعراض وتحليل قصائد الديوان . وأريد القول في النهايةِ: إن هذا الديوان من أحسن وأفضل وأرقى الدواوين الشعريَّة التي صدرت مؤخرا.. ويستحقُّ أن تُركَّزَ عليهِ الأضواءُ وتُكتبَ عنهُ المقالاتُ والدراسات المطولة من قبل الأدباء والنقاد والباحثين المختصين – محليا وخارج البلاد.
أتمنى ان تكون مقالتي المتواضعة هذه قد شملت وغطت جوانب هامَّة من هذا الديوان . ومهما كتبنا عن الشاعر والأديب والإعلامي الكبير الأستاذ فهيم أبو ركن لا نعطيه حقة وما يستحقه فهو قامة شامخةٌ باسقة في سماء الأدب والفكر والإبداع وركن هام من أركان الحركة الأدبية والثقافية المحلية.
( بقلم : الدكتور حاتم جوعيه – المغار – الجليل )
………………………………………………………….
أسماء المصادر:
*1) ديوان محمود درويش – الأعمال الشعريَّة الكاملة – إصدار دار
العودة بيروت.
*2) ديوان المتنبي.
*3) كتاب القرآن الكريم.
*4) جدارية محمود درويش.
*5) ديوان في القدس العارية – شعر: فهيم أبو ركن.
( يظهر في الصورة الشاعر فهيم أبو ركن من اليمين والدكتور حاتم جوعيه في الوسط والشاعر والفيلسوف المرحوم معين حاطوم -عندما كانا في زيارة الشاعر حاتم جوعيه في البيت )