“إنسان بلا وطن كم يساوي؟”
تاريخ النشر: 22/02/21 | 21:48دُعيت للمشاركة في ندوة حول كتاب “فدائي عتيق” بمبادرة مجموعة “حكي القرايا” في عرابة-جنين المحتلّة (157 صفحة، إصدار ذاتي للكاتبة أسماء عبد الغني ناصر أبو عياش، 2019) فقرأته ثانيةً فجاءت قراءة مغايرة في ظلّ عدنان.
الكتاب لمسة وفاء كتبتها الروائية أسماء أبو عياش لروح زوجها عدنان، رحمه الله؛ فدائي عتيق، رواية أقرب إلى السيرة الذاتية والغيريّة، بعيدًا عن الشعاراتيّة والأسطرة، دون تزوير الوقائع والحقائق، تصوّر تجربة حياتيّة صادقة بتقاطعاتها الأفقيّة والعموديّة، زمانيًا ومكانيًا، لمراحل مفصليّة في تاريخ فلسطين وقضيّتها، حاولت الكاتبة أن تبقى في ظلّ عدنان وذاكرته؛ لتزيده حضورًا رُغم الغياب، فلم تحاول اختطاف الأضواء فجاءت كثير من النصوص على لسان عدنان أو كأنّنا به يرويها على مسامعنا.
يُعتبر اختيار عُنوان الكتاب مهمةً صعبة، رغم أنه في حينه قيل: “الكتابُ يُعرفُ من عُنوانِه” فكان الكاتبُ يختارُ عنوانًا يلخّص مضمون الكتاب، يُشير إلى مُحتواه ليُحفّز القارئ على تناولِه، ولكن مع الزمن أصبح العنوان عتَبةً نصّية للعمل الروائي موازيًا لمتن الرواية وأصبحت له وظائف ودلالات. وفي كتاب “فدائي عتيق” لم یأتِ العنوان إلا في نهاية الكتاب (صفحة 145) ليجذب القارئ ويَبقى في ذاكرتِه.
وقد یُنسى اسم المؤلف ولا یُنسى اسم الكتاب؛ تساءلت بيني وبيني في البداية: هل هو عتيق كالوجه؟ أي كريمُهُ، هل هو عتيق كالثوب؟ أي جيّدُ الحياكة؟ هل هو عتيق كالبيت العتيق؟ أي الكعبة المشرّفة وبيت الله الحرام، أم هو العتيق؟ أي الكريم والنجيب، أم هو العِتق؟ خلاف الرِقّ وهي الحريّة؟ أم هو العتيق؟ المحرّر من العبوديّة (اللهم اجعلنا من عُتَقائِكَ من النار). هذا هو عدنان كما يتجلّى لنا في الكتاب!
تحكي أسماء رواية عدنان منذ صغره وحتى التحاقه بالثورة الفلسطينية، وما بعدها، معرّجة على مراحِلَ مرّ بها ولم يُهادن، وخاصّة التجرِبة الألمانيّة. مقاومُ مؤمن بقضيّته ومُنحاز لها، ليواجه المحتلّ الغاصب في درب آلامه الطويل والشاقّ ما دامت فلسطين لم تتحرّر بعدُ، ورحل دون تحقيق حلمه العتيق النقيّ، وثّقّت حقبةً كاملةً وتجربة جيل غُيّب وهُمّش عن تأريخ مسيرة نضال الشعب الفلسطيني.
يشكّل الكتاب عربون وفاء للبلدة التي وُلد وترعرع فيها عدنان، بيت أمّر، لأهله وسكّان البلدة، تاريخًا وجغرافيا وثورة، تفاح ولوز وعنب وانتماء، تضحية دون حدود ودون انتظار المقابل، مبادئ وصدق بالفطرة.
ويتناول الاغتراب، خارج الوطن وداخله، آمن عدنان بصدق قضيّته فرفض تصديق الواقع وعمل دوم كلل أو ملل لتغييره، من موقعه هو، محاربًا الأوهام ليحقّق آماله وحلمه بالحريّة، وحين عاد مع الذين عادوا عودةً ناقصةً ومبتورةً، إلى الجزء المُتاح من الوطن، كما قال صديقي الراحل أحمد دحبور، قال: “إن عودتي نوع من الاعتراف ببعض جدوى حساباتك البراغماتية، أما تمسّكي بالآمال القديمة فهي اليقين الكامل بأن ما فعلناه في زمن الثورة هو الحق، ولا أرى خياراً نهائياً غيره”.
للنكبة وللنكسة حضور في الحكاية؛ تُصوّر الكاتبة النكبة من خلال تهجير أبو العز من بلدته وادي الصرار/منطقة الرملة “شاهدَ بأم العين جنود الاحتلال يصوّبون بنادقهم نحو الأهالي العُزّل، شاهد أهل البلد يسيرون على غير هدى و…لم يلتفت أحد خلفه، هكذا تركوا البلدة دون التفاتةٍ منهم نحو أرواحهم المودعة فيها”(ص. 39)، وتصوّر كذلك النكسة “حلّت جائحة العام 1967 على الناس بنكبةٍ ثانية، خرج الناس إمّا قسرًا تحت تهديد السلاح، وإمّا خوفًا ممّا سيحلّ بهم إن هم قرّروا البقاء، فلهم في مجازر قبية ودير ياسين وكفر قاسم والدوايمة أمثلة على ما يقترفه جنود الاحتلال”، والكفاح ضد الاحتلال وتحرير الوطن السليب؛ الكفاح خارج الوطن من أجل الوصول للوطن، والكفاح الدائم من داخله ضد المحتلّ الغاصب، مات مؤمنًا أنّ المعركة لم تنتهِ بعدُ، ممّا جعل أسماء تشعر أن المنفى أجمل من الوطن، والأبطال يدفعون الثمن.
رحل عدنان إلى ألمانيا طلبًا للعلم وهناك: “اكتشفت فلسطينيّتي أولًا وإيماني بهُويّتي إلى جانب اكتشافي للحجم الحقيقي للعرب” (ص. 27) تمامًا كما حصل لإدوارد سعيد من قبله، بعد أن كان أول معتقل في بلده، ومن أوائل المعتقلين في الضفة، واستمرت تلك الرحلة القسريّة ثلاثين عامًا قضاها جنديًّا في سبيل فكرة آمن بها، متنقّلًا بين فلسطين والأردن وألمانيا ولبنان وسوريا والجزائر وتونس وغيرها في طريقه عائدًا إلى بلده.
تناولت الكاتبة بطولاتٍ فرديّةً هنا وهناك، لأفراد آمنوا بعدالة قضيّتهم واستُشهِدوا في طريقهم لتحقيق حلمهم بالحريّة المشتهاة وهُمّشوا ونسينا تضحياتهم؛ لأنهم رحلوا شرفاء تنقصهم البكّاءات، فتصرخ أسماء صرختهم متسائلة: “هل ترانا نذكر شهداءنا في أزمنة الركمجة والتلوّن؟ ” (ص. 48)
تناولت الكاتبة مسألة العمالة والجواسيس، منذ اعتقال عدنان الأوّل، وأعادتني إلى رواية “زغرودة الفنجان” للأسير حسام شاهين ورواية “سراج عشق خالد” للأسير معتز الهيموني وغيرهم ممّن حاولوا تنبيه شعبنا ودقّ جدران الخزّان، فتنادي بفضح العمالة والإسقاط وتعرية الخطيئة، فالاختراق الأمني حجر عثرةٍ في طريق الحريّة.
وكذلك وسائل التعذيب أثناء التحقيق والتفنّن بها من ضربٍ وتنكيلٍ بشتّى الوسائل للنيل من الفلسطيني ومحاولة دفن كلّ حلم أبيض مشرق.
تناولت الكاتبة بلباقة محاولة السطو على الزيّ الفلسطيني (ص. 102)، سطوا على أرضنا، مأكولاتنا، ثقافتنا وموروثنا، وها هم يجيّرون الجغرافيا والتاريخ بحِرَفيّة… حقًا، إنّها نكبة مستمرّة لن تتوقّف إلّا بالعودة.
رفضت الكاتبة أن تقع في فخّ النمطيّة ومخالب الدعاية الصهيونيّة وأنسنة الهولوكست، رفضت أن تلعب لعبة الشعور كضحيّة الضحيّة، فالضحايا ضحايا لا مبرّرات لمن جعلها ضحايا لتتساءل حين زارت معسكرات الاعتقال النازية والمحرقة: “كيف لهؤلاء الذين يتباكون على ضحاياهم في “بوخن فالد” وغيره من معسكرات النازية، يذيقون أهلي في فلسطين من ذات الكأس ولا يخجلون من بكائهم” (ص. 126).
قد تكون هزيمة الجغرافيا والتاريخ مجرّد جريمة قتل عابرة مقارنة بهزيمة الذاكرة التي تُعتبر مَجزرة.
يقول الفيلسوف العربي ابن خلدون في المقدمة: “إن حقيقة التاريخ أنه خبّر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم”، ويعني بذلك أن الحياة المدنيّة هي أساس التاريخ، وليس تاريخ السياسة والملوك والحروب، بل هو في الحقيقة جميع أنشطة البشر العاديين من فكريّة واقتصادية واجتماعية.
فالتاريخ غير مُجرّدٍ وغير مُطلق، وعادةً يكتبه المنتصر، ولذلك هناك ضرورة ملحّة لتوثيق روايتنا الشفوية الصادقة، المُهمّشَة والمُغيّبَة، فالشهادات الشفوية مهمّة جدا، شهادات مَن بقي ليرويَ قصّته وقصّة ذويه لأن المتبقّين من المنتكبين الأوائل من أبناء شعبنا يتناقصون ويموتون وتموت معهم حقيقة ما حدث لعلّها تكون عبرة لمن اعتبر، وحبّذا لو نحكيها، نُدوّنها ونُوثّقها كي لا تموت “الحقيقة الكاملة” ونكتب التاريخ غير المزيّف.
لذا هناك ضرورة قصوى وملحّة لتسجيل تلك الشهادات للباقين ممّن عاشها، “ما يشبه التاريخ الشفوي”، ثم أرشفة هذه التسجيلات لوضع حد للتشويه وعدم تركها للمؤرّخين، ولو جُمِعت تلك الشهادات لشكّلت اللوحة التاريخية الصحيحة، فالذاكرة الجماعية سلاح لتحقيق العدالة!
الكتاب عبارة عن سيرة ذاتية شموليّة وأفقيّة لشعب بكامله، ليست بسيرة ذاتية شخصيّة لكاتبته وزوجها، إنه سيرة تمزج بين الأحداث الشخصيّة لزوجها والأحداث العامّة التي دارت في فلسطينَ وعدّةِ دول عربيّة، مركّزةً على المفاصل المهمّة في تاريخها، مرورًا بالنكبة الفلسطينية والنكسة وما تبعها من تشتّت وتشريد، دون أن تتحول هذه السيرة إلى سرد للتاريخ، ولا إلى منبر للتنظير السياسيّ وفرض وجهة النظر، فنجحت إلى حدٍّ بعيد أن تقدّم صورة واضحة غير منحازة.
تقف أسماء أمام محكمة التاريخ لتصرخ صرخة ديستوفسكي في “بيت الموتى”، كتبَت ونشرَت كي لا يُقال: ما من شاهد على ذلك العصر!
أعترف؛ من وحي لقائي بالأسير وليد دقّة وممّا قرأته حول احتجاز جثمان دلال المغربي الذي ما زال أسيرًا في الثلاجات أو مقابر الأرقام (ص. 138) تولّدت فكرة سيلفي الجثامين والحملة التي نحن بصددها لتحرير الجثامين الفلسطينيّة المحتجزَةّ.
نحن سعداء بهذا الإصدار، ولكن لم يحالف الحظ الكثير من أهلنا الذين لم يحظوا بتوثيق تجربتهم، فالكتاب إصدار ذاتيّ محمود ومبارك، وحبّذا لو قامت مؤسساتنا بتوثيق ونشر ذاك التراث الغنيّ ليكون عبرة لمن اعتبر، وخاصة أن روايتَنا مُهمّشَة ومُغيّبَة وهناك ضرورة ملحّة لنشرها وأرشفتها لبناء المخزون الثقافي والسيرة التاريخية الصحيحة لتلك الحقبة لكونِها وثيقةً تاريخية متكاملة.
أما الهوامش في الكتاب فجاءت موفّقةً ومريحة؛ مُلحقَةً بالنص في أسفل الصفحة تهميشا وتذييلا وإلحاقا لإضاءة النصّ من جميع جوانبه -وخاصةً الدلاليّة والتاريخيّة- وتهدف إلى تسهيل النص على القارئ ، وتقريبه إلى الزمان والمكان، وإعطاء الشخوص الذين واكبوا عدنان ومسيرته حقّهم وإنصافهم للتاريخ.
ملاحظات لا بدّ منها؛ وقعت بعضُ الأخطاء التي كان بالإمكانِ تجنًّبُها؛ ومنها على سبيل المثال، حي سامباولي في هامبورغ وليس ساوباولي (ص. 100) وهو معروف اليوم بشارع العرب، وكذلك (آريه غورال) لم يكن رئيس بلدية حيفا في حينه، عام 1969 (ص. 101) (شغل المنصب من عام 1978-1993)، والأهم من ذلك، تساءلت حيال غياب صاحب “لوحة” الغلاف التي تليق بالكتاب، وجاءت موفّقة جدًا، وهُضِمَ حقّه، بتجاهله، أمر وَجَبت الإشارة إليه(***تبيّن لي لاحقًا أن الفنان حمزة عدنان أبو عيّاش هو مصمّم لوحة الغلاف).
هذا الكتاب ضروري لكل مكتبة بيتيّة فلسطينيّة ليكون عبرة للأجيال القادمة لنتعلّم منه النقاوة والعِبر.
رحل عدنان المناضل، ولم يتقاعد بعدُ؛ لأنّ مهمّته النضاليّة لم تنتهِ بعد، لم ينزل عن جبل أُحد، لم يُغْرِه مال ولا منصب، ذهب حيث المهمات أصعب، غيابه وأمثاله الأنقياء يشتدّ حضورًا!
وأخيرًا؛ ترانقتُ مساء الأربعاء مع صديق حيفاويّ عزيز مشتّت في عمان وسألني عن آخر قراءاتي فأخبرته أنّني أقرأ ثانية “فدائي عتيق”، للمشاركة بندوة في جنين حوله فكتب لي: “كنت عند توقيع الكتاب في عمان” وأضاف: “الكتاب أقلّ من الشخص بكثير، عرفته قبل زوجته.”، وهذه كلّ الحكاية.
عوفيتِ وبوركتِ أسماء على هذا الوفاء، المجد والخلود لروح عدنان الغائب عنّا والحاضر بيننا.
حسن عبادي
***مداخلتي في ندوة حول الكتاب، بوم السبت 13 شباط في قصور آل عبد الهادي، عرابة-جنين المحتلّة،
بمبادرة مجموعة “حكي القرايا”