فلسفة مبسطة: جولة في مفاهيم التشاؤم، التفاؤل والعقلانية
تاريخ النشر: 23/02/21 | 12:55نبيل عودة
بدأ محاضر الفلسفة محاضرته بتساؤل أيقظ انتباه الطلاب وحرك عقولهم: كيف نميز بين المتشائم، المتفائل والعقلاني؟ أضاف:
– لنرجع الى أصل التعبير.
أصل التعبير من(RATIO) وتعني “عقل، بصيرة” والاصطلاح هو (RATIONALIS – راتسيوناليزم) ويعني حرفيا اسلوب التفكير او التفلسف. لكن الفلسفة الحديثة والعلوم بتطورهما تجاوزا هذا التفسير الكلاسيكي الضيق وجعلته أكثر اتساعا خاصة في مجال العلوم.
ترجمة “راتسيوناليزم” بتعبير “العقلانية” لا يفسر المعنى الفلسفي الكامل. هذا المفهوم في الفلسفة يعني أيضا التصرفات التي تخدم أهداف الإنسان. تعني سلطة العقل بالتوافق مع المنطق، حسب فلسفة المنطق كل المعلومات التي مصدرها الأحاسيس وليس العقل هي غير قائمة. ايضا تفسر العقلانية على انها رؤية اساسية يجب ان يكون العامل النافذ-المقرر هو المنطق الفعلي وليس مجال الاحاسيس. كذلك يعني اصطلاح العقلانية الفلسفي بأنه صفة لمن يفكر ان للذكاء توجد أسبقية عن الطرق الأخرى بتحصيل المعرفة.
تعني العقلانية قدرة الانسان في حياته اليومية وممارسته المعرفية على اجراء محاكمات واعية بعيدا قدر الامكان عن تسلط المشاعر والعواطف او أي اعتبار شخصي آخر مع او ضد.
توقف قليلا، ابتسم، وسال الطلاب: هل تتابعوني ام ما زالت عقولكم وراء المايوهات التي تكشف أكثر مما تغطي على شواطئ البحر؟
كثيرا ما نتطرق بالفلسفة لتعبير العقلانية، العقلانية تنفي المعرفة الحسية التجريبية التي تدعي امكانية الفهم عن طريق الاحساس الشخصي والإدراك والتصور، اي القناعات الموروثة التي تصبح جزءا من عقل الانسان وتفكيره الخيالي(الميتافيزيائي). العقلانية تعتبر الظاهرة الحسية غير كاملة ولا تنطلق من أي معرفة يقينية. العقل لوحده فقط قادر على التوصل الى المعرفة الصحيحة الشاملة والضرورية.
تبرز النزعة العقلانية في العلوم أكثر من أي مجال آخر. العلوم تعتمد على حقائق وليس احاسيس وتخيلات. أكثر من ذلك يجري تطور العلوم بناء على نقدها ونقضها (تفنيدها) العلمي المعرفي. بينما التخيلات والأحاسيس لا يمكن ادراكها بأدوات علمية. ولا علاقة لها بتطور المعرفة العلمية للإنسانية. ونقدها لا يعطي أي نتيجة لمن صيغت عقولهم واغلقت عن أي رؤية مناقضة لما نشأوا عليه.
طرح الفلاسفة تفسيرات مختلفة، لا شك أنها تفسر بشكل صحيح المعنى المعتمد علمياً، لكنها تفسيرات متوقعة، يمكن القول إنها من النمط المعروف والتقليدي الذي لا تجديد فيه، لا يعطي مقارنات عملية، تشبه تفسير الطب لتكاثر الخلايا السرطانية، الظاهرة معروفة، لكن لا أحد يعرف سبب خروج الخلية عن اتزانها واختلال نشاطها الذي يقود إلى النمو السرطاني المنفلت، هناك تفسيرات بلا نهاية، كل تفسير يعبّر عن اجتهاد صاحبه، قد تجد ألف تفسير وألف سبب. كلها صحيحة وكلها لا تكفي لفهم الظاهرة وحصرها بنقاط متفق عليها من الجميع. لأن فهم الظاهرة يقود إلى معرفة علاجها وبالتالي تلاشيها أو صدها. ربما من رؤيتهم ان الموضوع لا يستحق جهد التفكير الفلسفي. ولكنه موضوع اجتماعي بارز في كل قضايا المجتمع الإنساني من السياسة حتى الطعام.
مثلا المتشائم رؤيته ان أي تقدم او هبه او اجرة لا تكفي وهي اقل من المتوقع. المتفائل يظن ان التقدم إيجابي مهما كان قليلا. الواقعي نظرته تحليلية، يرى باي امر إيجابي مهما كان هامشيا وغير ملموس فعليا خطوة ستجيئ بعدها خطوات أخرى، لذا ينتظر بصمت وبدون قلق.
أحد الطلاب أصرّ أن يحصل على نموذج ملموس للمفاهيم الثلاثة المذكورة… بينما أستاذه يصر أن التفسيرات المقدمة كافية وصحيحة في تفسير الظاهرة، الطلاب وجدوها فرصة للتخلص من الدرس الجاف، الأمر الذي فتح حواراً واسعاً لم يتوقعه المحاضر وشعر بنفسه ينجرف مع طلابه.
– مسألة بسيطة…
قال المحاضر، لكنه عاد لتفسيرات لا جديد فيها. قال:
– المتشائم لا شيء يعجبه، دائماً يرى الشيء الناقص، مهما اكتملت حياته وتحسن وضعه، إلا انه يظل متمسكاً بالنواقص، لا يرى غيرها وتصبح هي العنصر الأساس. يعتبر كل نجاحاته وتطور مكانته ناقصة وغير مكتملة، كل شيء حوله ناقص وكئيب من وجهة نظره، كل ما يحصل عليه هو دائما أقل مما يستحقه، دائم الانتقاد، لا شيء يراه كاملاً، إن وقف أمام المرآة هجا نفسه وهو سريع الغضب أو يائس من مجرد وجوده.
بعد تأمل لم يطل لوجوه الطلاب لفحص تأثير شرحه عليهم واصل:
– أما المتفائل، فهو إنسان مختلف بجوهره، ونقيض تماماً للمتشائم. يرى بكل خطوة تقدماً إلى الأمام.. في كل يوم جديد مكسباً كبيراً، الأمر الذي يجعله دائم الابتسام سعيداً بما يحصل عليه، مهما كان صغيراً وغير ملموس، حتى لو واجهته أزمة ما، نجده يميل إلى الثقة بأنها عابرة، غداً سيكون أفضل بالتأكيد.. وإذا ليس غدا فبعد غد… أو بعد بعد.. او كما كانت جارة لي تقول بسخرية: “انا متفائلة، اليوم أحسن من غدا”!
أضاف المحاضر بعد أن قطع المسافة بعرض الصف وطوله وهو يشعر بتجليه وإصابته الهدف بدقة:
– أما الواقعي فهو الذي يبرر النجاح والفشل بعوامل موضوعية. كل ما يحدث له تفسيره. لا شيء يحدث بالصدفة. دائماً يرى الواقع في إطار من المعطيات وليس حسب أطماعه وميوله.
شعر المحاضر انه أوفى الموضوع حقه، نظر الى عيون الطلاب بنوع من التحدي والإفحام. لكن طالبة تتميز عادة بقلة المشاركة، رغم تميزها التعليمي، اعترضت بالقول إن الموضوع الذي طرحه الأستاذ المحاضر هو تفسير أقرب للأنماط التعليمية التقليدية غير المبنية على رؤية عملية، أن موضوع التشاؤم والتفاؤل والواقعية لا يمكن تفسيرها فقط بخصائص اتَّفق عليها علماء النفس، لأن النفس البشرية أكثر تعقيداً واتساعاً من كل عالَم أطباء النفس.
نظر المحاضر إلى محياها الجميل وقال:
– قبل أن أسمع صوتك كنت متشائماً بأني سأنهي الفصل الدراسي دون أن أسمعك مرة واحدة، لكن تشاؤمي لم يكن بمكانه والآن أنا متفائل أن أسمعك أكثر من مرة قبل انتهاء الفصل التعليمي.
أضاف وكأنه يبرر أقواله:
– في الواقع ممنوع أن يلجأ المرء إلى التشاؤم أو التفاؤل قبل أن يدرك الحالة الموضوعية للشيء.. ان الواقعية أيضا ألا يبني الإنسان توقعاته حسب الشيء الظاهر لعينيه.
ضحك طلاب الصف وقال أحدهم:
– أجدتَ يا أستاذ…
لكن عيون طلابه تقول: لا شيء جديد في قولك!!
الطالبة عبست ولم تتحرك قسمات وجهها. كانت تقف أشبه باللبؤة. قالت بعد ان ساد الهدوء:
– لا جديد فيما تقوله أستاذي، اسمح لي ان أعارضك. انت زرعت فينا عنصر الشك في قبول الشيء قبل إثبات صحته، رغم اعترافي أنك أستاذ بارع وسريع البديهة، دروسك شيقة وتعبّئ دماغنا بمعلومات تنويرية رائعة، الا اننا نتوقع نموذجاً عملياً لثلاثة أشخاص، متشائم ومتفائل وواقعي سوية ورد فعلهم المختلف على ظاهرة مشتركة شاركوا فيها بالتساوي.
كاد المحاضر يرد بعصبية لأن الموضوع حسب اعتباره تافه من أن يضيع عليه حصة كاملة مليئة بنقاش استفزازي يظهره عاجزاً عن التفسير بما يرضي ميول طلابه وعنجهيتهم وغرورهم ومحاولتهم إرباكه، ظنّاً منهم انه غافل عن ميولهم.
كان على قناعة أن المسألة لا تستحق أكثر مما قدمه حتى الآن. لكن وقفة الطالبة، صوتها الواثق القوي، الضوء الذي يتلألأ في عينيها، أفهمه أنها ليست كما يظن، او انها صامتة من ضعف معرفتها… بل لأن عقلها هو الفعال، تشتري ولا تبيع، عندما لمست أن المحاضر والطلاب يدورون في حلقة مفرغة وقفت تتحدى، يبدو أنها أذكى مما كان انطباعه عنها حتى الآن، لا بد أنها تملك تفسيراً ملموساً، سيرفع أسهمها بين الطلاب وعند أستاذها بالتأكيد والا ما تجرأت على تحديه السافر. قال لنفسه: “المكتوب يقرأ من عنوانه”.
هذه الأفكار أعادت للمحاضر هدوءه ورغبته في سماع تعليلها. قال بعد تفكير وعيناه لا تفارقان وجه طالبته العابس:
– أعتقد أن تفسيراتنا، رغم صحتها، تفتقر إلى نماذج تطبيقية. أعترف أني لا أتذكر حادثة واحدة شارك بها النماذج الثلاثة وكيف تصرف كل واحد منهم. لكن يبدو أن زميلتنا الطالبة (وشدد نظراته اليها فاحصاً رد فعلها) لديها إجابة عملية ملموسة، قد تضيف أمراً أكثر وضوحاً لما فسرناه نظرياً.. تفضلي.
ابتسمت الطالبة ابتسامة عريضة، مزيلة عبوسها مؤكدة فوزها بالجولة الأولى (قال المحاضر لنفسه: “عبوسها من باب التمثيل ويبدو ان صمتها من عمق معرفتها”) وقالت وهي ترسم ابتسامة ذكرته بابتسامة الموناليزا الغامضة:
– سافرت مع والدي في أسبوع نقاهة إلى تركيا. أثناء استراحتنا في مطعم جبلي، قدمت لنا ثلاث كؤوس كبيرة من الماء البارد، كان حجم الكأس أكبر من الكأس العادية بالضعف او أكثر، وربما لهذا السبب لم تُملأ بالماء حتى حدها الأعلى وفقط لنصفها أو أكثر قليلاً.
صمتت لتتمتع بصمت القاعة كما يبدو والإنصات الكامل لكلماتها:
– والدتي المتشائمة دائماً، عبست وهي تنظر لكأس الماء وقالت: “كيف يقدمون كؤوساً نصف فارغة، يتباخلون علينا بكاس مليئة بالماء؟” أرادت أن تستدعي الجرسون لتغسله بكلامها العصبي، كما تفعل عادة وتسبب لنا الإرباك. إلا أن والدي المتفائل دائماً سارع إلى مقاطعتها وتهدئتها بالقول: “انظري جيداً يا عزيزتي. الكأس كبيرة جداً وهي نصف ممتلئة، لا ضرورة لبهدلة الجرسون، فلن تستطيعي شرب كل هذه الكمية من الماء.”
واصلت بعد ان تمهلت “لتنظم بقية روايتها في دماغها” كما ظن المحاضر بينه وبين نفسه:
– كنت أعلم أن الصدام بين والدي المتفائل دائماً ووالدتي المتشائمة سيحتد أن لم أسارع بالتدخل، كالعادة.. لوضع الأمور في مكانها الصحيح، قلت بسرعة، بواقعيتي التي تعلمتها من النقيضين أمي وأبي: “اعتقد أن المشكلة يا أمي حجم الكأس، الكأس أكبر من الحجم الذي نستعمله لشرب الماء، لذلك كمية الماء لا غبار عليها. حجم هذه الكأس ضعفا الحجم العادي”.
فأضحكتها ضحكة سوداوية تعني أنها ستصمت رغم أنها لم تقتنع.
ضج الصف بالتصفيق والضحك، والمعلم يصيح: “اعترف أنك فاجأتِني، ببساطة، تفسير رائع!”