مرة أخرى انتخابات، فهل سيجزينا آذار
تاريخ النشر: 05/03/21 | 9:30جواد بولس
يأتينا آذار وهو مثقل بالنعاس وبالعتاب؛ ونحن، عشّاقَه الأثيرين، لا زلنا نجهش، كلٌّ على أريكته، بالهتاف، ونُطعم لياليه أحلامنا والسرابا. بين آذارين غفونا فتاهت شواطئنا وكل شيء حولنا تغيّر؛ حتى ما حسبناه في قصائدنا ربيعنا، لن يكون فيما يبدو أكثر من ظل كسير “لربيع” أشقائنا العرب؛ فلونه، مثل لون الوجع، أحمر، ومذاقه مثل الرماد الأخضر يخدع ويلسع. وجهتنا في الثالث والعشرين القادم نحو المجهول، فمن سيضمن للعشاق ضحكات زهر اللوز بعد انقضاء هذا الشتاء الأسود؟ ومتى سنعرف كيف نبني لنا وطنًا من لغة لا تدمن “أحابيل البلاغة” ولا تنام على رموش السحاب؟
يحاول البعض اقناعنا أن أحوالنا في إسرائيل، رغم تهافت الأسئلة والعقد، ما زالت عادية ولا تقلق؛ فكل الخرائب التي نتأت في مواقعنا، وكل الرماح التي تساقطت على جيادنا وكل الصدور التي عرّتها أربع جولات انتخابية، لم تكن، وفق حساباتهم، إلا تواقيع لحروب اليهود مع اليهود؛ وجميع ما نواجهه من تداعيات وأزمات ليس إلا علامات ربّانية على دنو نهاية “الكيان الصهيوني”، وتباشير لساعة الفرج والخلاص! وما دامت تلك هي البشرى فإن هؤلاء يدعوننا لمقاطعة الانتخابات لأنها، في البداية وفي النهاية، لعبة الصهيونية الخبيثة، والكنيست وَكرها المقيت.
أنا لست من هؤلاء المطمئنين الواهمين؛ فاسرائيل التي عرفناها وواجهنا سياساتها القمعية لعقود عديدة تمضي بخطوات من نار نحو العدم، وتشلح جلودها القديمة، وتطرد “قضاتها” وتستبدلهم بملوك لن يرضوا “بالأغراب” الا عبيدًا صاغرين في أراضيها أو، إذا عصوها، فقرابين على مذابح الولاء او على أنوف الخناجر.
وقد يكون بطء التحولات السياسية والاجتماعية على الساحة الاسرائيلية، وانصهارها فيما يحصل على الساحة العالمية وفي منطقتنا، هو أحد الأسباب التي تدفع ببعض المواطنين العرب الى عدم ملاحظة الفوارق بين ما ميّز نظام الحكم الذي كان قائمًا منذ الاعلان عن الدولة وبين ما تشكّل في السنوات الأخيرة الماضية ويتشكّل في هذه الأيام ؛ وقد تكون سيولة اللغة اليمينية الصهيونية العنصرية وفوضاها الواخزة المنبعثة من أفواه جميع قيادات الأحزاب الصهيونية المتنافسة في جولات الانتخابات الحالية، هي أيضًا سبب لخلق ذلك الوهم لدى الكثيرين واقتناعهم بأن جميع هؤلاء اليهود متشابهون ولا فرق بالنسبة لنا، العربَ، إن حَكَمنا ابن جبير، أو بينت، أو ساعر، أو نتنياهو، أو لبيد، ولا ما أهداف كل واحد منهم النهائية، المعلنة أو المضمرة، على حد سواء.
ولكن تبقى تلك محض مغالطات يقعون فيها، وأوهاما كبيرة قد جعلت الكثيرين يتخذون مواقف ملتبسة وعاقرة لم تسعفنا في تحسين أوضاعنا الحياتية؛ بل، على العكس، فقد عززت تدافع تلك السيرورة الفاشية المتنامية في الدولة وساعدت على تفريخ وتسمين العديد من القوى الدينية اليمينية الجديدة المنفلتة وتعاظم تأثيرها داخل المجتمع اليهودي، حتى غدت فرصة تمكّنها من استلام مقاليد الحكم جائزة ، قاب آذار أو أقل.
من الخطأ الاستخفاف أو اغفال خطورة تحوّل المجتمع اليهودي الى كيان فاقد لمعظم القيم الانسانية الأساسية، والى معظم المباديء التي آمن بها بُناته الأوائل وحاولوا تطويرها كدعائم تحفظ أواصر دولتهم التي أرادوا أن تكون ديموقراطية بالنسبة للأكثرية اليهودية، وتحكم، في نفس الوقت، بعنصرية فاجرة مواطنيها العرب.
لن أعدّد اليوم الفوارق بين إسرائيل الناكبة الباكية وابنة الكارثة، وبين اسرائيل الظافرة القادرة وصانعة المواجع، وريثة حجارة السماء وعسل الملائكة وغضبهم؛ ومن لم يفقه ما يقوله لنا حدس التاريخ، ينَم مثلما نامت أريحا، مدينة القمر، حين لم تسمع نعيق الأبواق ودردبات طبول الدم وهي تعربد على نواصي الهضاب، ولم تصحُ على تصفيق أجنحة السنونوات الهاربة مذعورة في فجر كله سيوف وبكاء وصلاة.
لا أعرف ماذا يجب أن يحصل لنا، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، كي يتراجع البعض، ولو من باب فائدة التجريب المسؤول، او بدافع “غريزة البقاء”، عن موقفه الداعي الى مقاطعة الانتخابات؛ وأتمنى أن يراجع هؤلاء مواقفهم قبيل السقوط الأخير في الهاوية؛ فمن غير المعقول أن نفقد أملنا بالتأثير على مجريات الحالة السياسية في واحدة من أهم ساحات المواجهة والمقارعة والنضال: في الكنيست.
لا يوجد مسح علمي ودقيق لدوافع الجهات الداعية الى مقاطة الانتخابات، لكننا نستطيع، من باب التكهن الحذر والتمعن في التجارب الماضية، ان نفترض ان الفئة الأولى والأكبر تلتزم بموقف “الحركة الاسلامية الشمالية”، والثانية تنتمي لمجموعات صغيرة لا تؤمن بشرعية وبنجاعة نضال المواطنين العرب البرلماني؛ وقد برز من بينهم تاريخيًا أتباع “حركة أبناء البلد” على تفرعاتها القومية المختلفة؛ والى جانب هؤلاء المقاطعين لأسباب عقائدية دينية أو مبدئية سياسية، سنجد مجموعات قد أصابها السأم فاستسلمت للكسل وللا مبالاة نتيجة تكرار عمليات الانتخابات التي لم تفض لأي مخرج سياسي؛ ومعهم مجموعات من “الزعلانين” والمحتجين ومدمني الرفض العبثيين والمزايدين.
يمكن ويجب التأثير على بعض تلك المجموعات وثنيها عن قرارها بمقاطعة الانتخابات؛ وهذه، بطبيعة الحال، هي أهم مهمات قيادات القائمة المشتركة وكوادر الأحزاب الشريكة، وقد يكون انشقاق الدكتور منصور عباس وحركته الاسلامية عن القائمة المشتركة عاملًا محفزًا لكثيرين ممن ابتعدوا عن الصناديق ووقعوا فرائس لليأس وللغضب.
حق المواطن في مقاطعة الانتخابات قائم، لكنني أرى أن واجبه المواطني الأساسي يقضي المشاركة فيها؛ فعدم مشاركته يضر بمصلحة المجتمع ؛ أقول ذلك وأعرف اننا كمواطنين عرب ما انفكت مؤسسات الدولة تستعدينا منذ يومها الأول، وتحاول اقصاءنا مرّة وابتلاعنا حينًا وتفتيتنا أحيانًا، ولن ننتصر على هذه السياسات بالنضال في ساحة البرلمان لوحده؛ لكنني أجزم أن نجاحنا في الانتخابات الأخيرة بايصال خمسة عشر نائبًا لمقاعد الكنيست، قد زوّدنا، كمجتمع يخوض صراعاته في عدة جبهات، بقوة كبيرة نجحت بشكل نسبي وملموس بالوقوف امام سياسات القمع والاضطهاد، ومنعت امكانية أن تكون أوضاعنا في عدة ميادين حياتية أسوأ وأخطر. ولا يمكن أن نفهم ظاهرة اللهاث وراء الصوت العربي العادي والحر، بخلاف ظاهرة احتواء المخاتير والاعوان القديمة الجديدة، إلا من باب استشعار الأحزاب الصهيونية واقرارها بمدى قوة مجتمعنا الكامنة واستيعابهم لاحتمالات تأثيرنا السياسي هنا وأمام العالم.
أنا سأصوّت هذه المرة أيضًا ولا أفعل ذلك بسبب ايماني “بكرم” الديموقراطية فحسب ولا كي أسقط اليمين بضربة قاضية، ولكن، ببساطة، ساصوّت كي أغرس ،كما قلت في الماضي، سنبلتي في صدر قدري، مؤمنًا بأن قليلًا من الاصرار والعمل خير من نهر تنظير وأجدى من قناطير رومانسية طاهرة وصاع كسل؛ سأزرع تلك السنبلة وأنا أتذكر نصيحة الحكيم بألا أكتفي بلعن الظلام بل عساني أضيء شمعة.
لا نعرف ماذا تخبيء لنا ألايام هذه المرة، لكنني أتمنى ألا يقف الأب منا، في الرابع والعشرين من آذار، أمام طيف ابنه في مرآة البيت المرتجفة ويردد وصية تلك الريح المشمئلة المنسية ويقول له : “لا تخَف. لا تخف من أزيز الرصاص، التصق بالتراب لتنجو ! سننجو ونعلو على جبل في الشمال، ونرجع حين يعود الجنود إلى أهلهم في البعيد…” فلنعبر الجسر بسلام، ولندَع آذار وادعًا دون أن تجفله حماقاتنا، ولنترك حساباتنا مع قادة غفلوا ، اذا غفلوا، الى ما بعد ركود المطر وقبل هبوب العاصفة ونزول أول الغبار ..