قصة قصيرة اسمه من ثلاثة حروف
تاريخ النشر: 06/03/21 | 20:46ميسون أسدي
في الساعة العاشرة واثنتي عشرة دقيقة صباحًا، في الثامن من آذار، جاءت زينة لزيارة صديقتها عبلة في بيتها، للاحتفال في يوم المرأة العالمي. كما في كل سنة، كانت عيناها عقبة مانعة، ولا تقوى على النظر في عيني عبلة السَوداويتين اللماعتين، وذلك لعمق خفيّ من الأسرار وبريق لطيف شفاف نفاذ إلى النفس، لكن زينة تجرأت وقالت: “يا لهذا الشعور بين جوانحك، حدّثيني عنه”.
اكتسب وجه عبلة التعبير الصارم الذي ينم عن قلق، وأجابت:
– إنّه معتدل القامة، وعريض المنكبين، ورأسه مرفوع في اعتداد، وحادّ الطبع، ومتحمس المزاج، وفي نفسه شخص مندفع في تهوّر إلى حدّ الخطر، والآخر هادئ الطبع مطمئن المزاج، عاشق استحوذ عليه الإلهام، وله عينان زائغتان ملتهبتان تهدر عبارات فخمة طنّانة، وهو كلّه هائج لا يطيق الصبر…
سألتها زينة بيأس وقنوط:
– ما أوّل حرف من اسمه؟
فأجابتها عبلة:
– اسمه مكون من ثلاثة حروف. لا أستطيع الإجابة، خوفا من أن أحسد نفسي وتحسديني أنت، “ما بحسد المال إلا صحابه”، له عدة أسماء يستعملها حسب المكان والزمان، جانبه القريب مني يكون تقريبًا مضاء بالكامل، وجانبه البعيد يكاد يكون مظلمًا تمامًا.
أطرقت زينة برأسها وهي تحرك الملعقة على صحيّن الفنجان وقالت:
– أكّدي لي حدسي يا حبة القلب بأنّ كلامك صحيح، حتّى أشعر بالأمل وبأنّه يمكننا أن نعشق الحياة ثانية رغم آلام السنين. إنّنا في مرحلة انتقالية ثقيلة الوطأة من عمر الإنسان، حين يتدحرج من قمة سن الخمسين نحو سفح العقد السادس من سنينه، ويعتقد أنه لم يبلغ سن الكبر، بل أنّه حتّى دون سن البلوغ.
ابتسمت عبلة مثل العذارى ولم تجب، ثمّ سألتها زينة ثانية، وقد اعتراها تأثير الانفعال، وأجهشت منخرطة في النحيب وأنفها يخنخن:
– أما الحرف الثاني من اسمه. أكّدي لي صدق شعورك حتّى لا أفرغ حقائبي المرزومة منذ عشرين عامًا وراء بابي، وعلاوة على ذلك، أريد الاطمئنان عن حالك، فأنت شاردة الذهن، قليلة الكلام، زد على ذلك أنك خسرت كثيرا من وزنك.
قالت عبلة وهي تجيل بفكرها:
– يضيء حياتي بالنور، فيظهر لي كاملا بتجليه في السماء…
ثمّ أغمضت عبلة عينيها وتلفظت بإجلال:
– إنهم لسعداء، أولئك الذين يتاح لهم التسامي في عيني المحبوبة، قال لي: “عندما تفيض مشاعري يا عبلة، لا أقدر أن أحارب، يرعبني أنني أحس ببعدك. عمري وحياتي أنتِ، أيتها الأغلى بين الأحياء والأموات، أريد أن يتغيّر الزمن وأرغب الخلود من أجلك، ورجليك وأصابع قدميك في عيوني، من أجل حبيبتي، أغادر الكرة الأرضية، يسعد كل مكان لك فيه ذكريات، لا بدّ أنّ الملائكة أحبّوني جدًّا ووثقوا بي، وإلا لما أرسلوني إلى أرق وأجمل البشر. والقصائد تائهات فيك منك إليك والشعر الجميل أتى عليه الحب… من أين تأتي الشاعرية؟ من بياض القلب أم من وردة حمراء في الصحراء؟ قالوا لي أيوصلك البر إلى عبلة؟ قلت لا… قالوا أيوصلك البحر إلى عبلة؟ قلت لا. تأتي عبلة إليّ بحكم الحب وأوصالها”.
*****
قالت زينة وهي منبهرة من كلام صديقتها:
– يا إلهي، ما أحلى التحدّث بعبارات فيها ما يدهش ويثير النفس، كيف وقفت بوجه هذا الكلام المعسول؟
أجابت عبلة وأضاءت وجهها ابتسامة مشعة:
– أحببت أن أحاججه وأناطحه بالكلام والمداعبات الممازحة، وإذا آثرت قول الحق حتى أخرج الطيب منه، وأسمع ما يسلي ويروح عن النفس. فقلت له ردا لكلامه المعسول: اسكت! وكان قلبي يعتصر فرحًا بكلامه وجماله، فهو حارّ الطباع متحمّس المزاج، ولم يقمع في نفسه نزوات الغضب أو اندفاعات الإعجاب أمامي. فأجابني وعلى وجهه ترتسم تعابير تدلّ على الخلو من الهموم حد الملل والضجر: “نفسي غير مثقلة بالتوافه يا حبيبتي، فلا تمنعيني من الكلام، لأنّني أختنق من ذلك”. صاحب نفس حساسة رقيقة، عيناه الثابتتان متعجرفتان في غطرسة وكأنّهما عينا تمثال مقدود من المرمر. لقد قال لي: “عندك من كلّ شيء الكثير، وحتّى قليلك كثير. ألقي عليّ بنظرة حبّ واحبسيني مؤبّدًا بين جفونك، ليس لي رعيّة، لي غزالة كلما والفتها، كلما قفزت بعيدًا عنّي”.
توقفت عبلة عن الكلام للحظة، ثمّ نظرت إلى عينيّ رفيقتها بتفحّص وتساؤل، فقالت زينة:
– أرجو ألا تكون الأمور تعقّدت بينكما!
فأجابتها عبلة وهي تبتسم:
– لا تخافي، لسانه حاد بشعبتين، وقد أجابني بنوع من الوقاحة: “لا أعتقد أنك حملا يا عبلة، أنت الذئبة التي افترستني ولا أظنّ أنّي سأنجو، وأرغب افتراسها لي، لكنّك سيدتي أغلى من الجفون. أخاف عليك وأخاف منكِ، فإحساسي هو بوصلتي وهو الذي أخذني إليكِ؛ لكنّي أخاف من بُعدنا، أنت بالنسبة لي ليس كما أنا بالنسبة لك، أحب أن تضحكي وألا تفارقك الابتسامة، لم تكوني يومًا بالنسبة لي مُهانة، أنت حارسة قلبي وترسانة قويّة في عمق الحقائق، أيتها الأغلى بين الأحياء والأموات. أنت تقتليني وتنكرين عليّ حق الدفن، وتستمتعين بنكران إلى قلبي الذي كان معظم الليالي يناجيك يا وغدة، تبنّيني سنتين ثمّ افطميني بعدها وارميني للضباع. كلا وربك ما فيك من الحمل إلا جماله، ومن يحدثك الآن، أظنّه سيكون من ضحاياك، وسيكون الأحبّ إلى قلبي. أتريدين أن يكون التهامك لي رخيصا؟ أظنها ستكون من أعقد وأكبر التفاعلات التي حصلت منذ احتراق طروادة بسبب امرأة تشبهك إلى الآن، إذا تركتني سوف أغلق باب بيتي وأنام تحت شجرة بلوط في العراء”.
*****
قالت زينة ووجها يشع بالحماس حد الرغبة في الافتراس، وأحست بالرضى لأن كلبًا كبيرًا في أعماق روحها أخذ يهز ذيله:
– ربي اطعمني ما أطعمك إياه…
أجابت عبلة:
– وأي حب فخور لا ينطفئ التهبت شعلته في قلبي نحوه.
أصرّت زينة على السؤال قائلة:
– إنها الرابعة وسبع عشرة دقيقة، ما الحرف الثالث من اسمه؟
ابتسمت عبلة وعراها الاضطراب، وأجابتها:
– يزورني عند غروب الشمس، ويغيب عند شروقها، ويبات في حضني لمدّة ليلتين أو ثلاث ليال، أحيانا يظهر في منتصف النهار أو الليل، أعشق زياراته كلها. الحياة لا تجري رخاء بلا منغصات، ولا ينبغي عبور الحياة قفزًا، لقد أظهر مدى قوة التعبير في الكلمة، حتى إذا كانت الغاية خسيسة.
ثمّ أضافت بجفاء يقطر سمّا:
– أخذتني الكلمات، ونسيت أن أخبرك أن تفرغي حقائب سفرك.
– ما اسمه؟ -قالت زينة بتوسل.
أجابت عبلة بفخر:
– اسمه من ثلاثة حروف يكونون فقط في الكمال… نعكس الأخيران فيصبحان جواب لكل سؤال… الأول والأخير يمتلكهما المحسنين… نعكسهما فيملكما رب العالمين… هل عرفتِ ما اسم حبيبي؟؟؟