مَقامَةُ الـمَرايا- بقلم: محمود مرعي
تاريخ النشر: 15/03/21 | 9:09حَدَّثَ صَدَّاحُ الصَّاحي، اِبْنُ سَناءِ الـمِصْباحِ، ذو الفِكْرِ اللَّمَّاحِ، وَالقَلَمِ الجَرَّاحِ، قالَ: ما أَضْيَقَ الرَّحْبَ لَوْلا فُسْحَةُ الجُبِّ، في الزَّمانِ الخِبِّ، وَقِلَّةِ العُيونِ، وَكَثـرَةِ العُيونِ، وَفَقْدِ العُيونِ، وَعَمى العُيونِ، وَخِداعِ الـمَرايا، وَطَوايا الـمَطايا، وَانْتِشارِ الحَيايا، وَكُلِّ سَحْلِيَّةٍ وَعِظايَهْ، لَقَدْ آثَرْتُ العُزْلَةَ وَالاِعْتِزالْ، وَالنَّقْلَةَ وَالاِنْتِقالْ، وَالرِّحْلَةَ وَالاِرْتِحالْ، وَالبُعْدَ الـمُغْرِبْ، إِلى البَعيدِ الأَقْرَبْ، بَعْدَما أُصِبْتُ مُصابَ أَهْلِ حَتَّـى، مِنْ ذَوي القُلوبِ الشَّتَّى، وَالوُجوهِ الـمُقَنَّعَهْ، وَالأَلْسُنِ الـمُشْبَعَهْ، بِطَبَقَةٍ مِنْ عَسَلِ، مِنْ قَبْلِ خَلْقِ النَّحْلِ، اَلسُّكَّرُ مِنْها مَفْقودْ، وَالعِطْرُ عَنْها مَطْرودْ، سُبْحانَ الخالِقِ الـمَعْبودْ، ذي الفَضْلِ وَالـمِنَّةِ وَالجودْ.
رَفَعْتُ يَدِي فِي وَجْهِ الصَّدَّاحِ، لِأَعْقِلَ الجُمَلَ الفِصاحَ، وَأَنْسَخَ الأَفْعَالَ وَالمبَانِي، وَأَسْتَوْعِبَ خَفَايَا المَعاني، وَأَفْقَهَ الَّذِي مِنْهُ يُعَانِي، فَمُشْكِلَتِي مَعَ الصَّدَّاحِ، مُذْ عَرَفْتُهُ أَوَّلَ صَبَاحٍ، كَلامُهُ مُوغِلٌ فِي القِصَرِ، وَالـمَعْنَى الظَّاهِرِ كَصَوْبِ الـمَطَرِ، وَالبَاطنُ يَحْتَاجُ إِخْوانَ الصَّفَّا، وَابْنَ رُشْدٍ وَصَاحِبَ الشِّفَا، وَكَمْ وَقَفْتُ وَإِيَّاهُ عَلَى شَفَا فَصاحَ الصَّدَّاحُ صَهْ، تُقاطِعُني في كُلِّ ذِرْوَةِ فَوْرَةٍ فَمَهْ، أَنْفُثُ ما في صَدْري مِنَ الغَضَبْ، وَتَلْهَثُ خَلْفَ الـمَعْني وَالـمَعْنى وَتَخِبْ.
كُلُّ ما في الأَمْرِ يا صاحْ، نَفْسي تُعاني الهُمومَ وَالأَتْراحْ، وَنُضوبَ زَيْتِ مِصْباحِ مِشْكاةِ الأَفْراحْ، وَاحْتِـراقَ ذُبالَةِ الـمِصْباحْ، لِكَثْـرَةِ الغُدُوِّ وَالرَّواحْ، بَحْثًا عَنِ الصَّافي القَراحْ، دونَ فَوْزٍ أَوْ نَجاحْ، وَالحَالَ الَّذي لا يَحولُ بِحالِهْ، وَلا أَمْثالَهُ في انْثِيالِهْ، وَتَعْليلَ اعْتِلالِ مَثَّالِهْ، وَاصْطِفاءَ الدَّخيلِ، وَاجْتِنابَ الأَصيلِ، وَكَثْـرَةَ القيلِ وَالقالْ، مِنَ الجُهَّالِ وَالأَغْفالْ، وَللهِ دَرُّ مَنْ قالْ:
“اِنْقَلَبَ الدَّهْرُ بِالبَرايا.. فَالنَّاسُ في غايَةِ العُكوسِ
كَأَنَّهُمْ في غَديرِ ماءٍ..فَالرِّجْلُ تَعْلو عَلى الرُّؤوسِ”
وَزادَني غَمًّا هٰذِهِ الأَيَّامْ، كَثْـرَةُ الـمَرايا وَذَواتُ الأَوْهامْ، الهائِماتُ خَلْفَ الهَوامْ، الـمُكْثِراتُ الكَلامَ عَلى الكَلامْ، وَجُلُّ الكَلامْ، كَلامِ الاِبْتِداءِ عَلى الدَّوامِ، الـمُلْقِياتُ بِكُلِّ مَقامٍ وَمَقامَهْ، ما تَحْوي رُؤوسُهُنَّ مِنَ القُمامَهْ، النَّاعِفاتُ التَّفاهَةِ وَالسَّفاهَةِ وَالـمَلامَهْ، الـمُشْعِلاتُ في النُّفوسِ بَراكينَ الضَّجَرِ وَالسَّآمَهْ، وَحَظُّهُنَّ مِنْ ثَمَرِ الأَقْلامِ ثُلُثا قُلامَهْ، بَلَّغَنا اللهُ وَإِيَّاَك السَّلامَهْ.
وَلَقَدِ اصْطَدَمْتُ في طَريقي الـمُسْفِرَهْ، مُنْذُ عَبْقَرَ وَالعَباقِرَهْ، بِذاتِ مِرْآةٍ مُصَغَّرَهْ، مُحَدَّبَةٍ مُقَعَّرَهْ، عَنْ كُلِّ خَيْـرٍ وَنَفْعٍ مُقَصِّرَهْ، وَلِلذَّوْقِ وَالفَهْمِ مُفْتَقِرَهْ، مِنْ حُمْقِها وَوَهْمِها لا تَرى في مِرْآتِها غَيْرَ نَفْسِها، فَلا وُجودَ لِلْإِنْسانِ غَيْرِها، لا في رَأْسِها وَلا داخِلِ البِـرْوازْ، وَما يُحيطُها حَقًّا لا مَجازْ، فَكُلُّ ما حَوْلَها ظَلامٌ كَحَظِّها وَفِقْهِها لِـما يَجوزُ وَما جازْ، وَاللَّمْحُ يَكْفيكَ فَالبَلاغَةُ في الإِيجازْ، مِرْآتُها غَرَّارَهْ، بِالشَّرِّ شَرَّارَهْ، وَلِلْخَيْـرِ هَدَّامَةٌ عَقَّارَهْ، لا تُشْبِهُ الـمَرايا، في سَطْحِها وَالزَّوايا، وَكَشْفِها وَالخَفايا، وَلَمْ أَعْدُ فيها ما رَوُوا عَنْ عَماها وَعَمى النَّوايا:
لَقَدْ عَمِيَتْ لِـما أَبْدَتْ.. لَها الـمرْآةُ في الـمَجْلِسْ
وَكَمْ مِنْ غِرَّةٍ قَتَلَتْ.. مَرايا الوَهْمِ في الأَنْفُسْ
وَفي الـمِرْآةِ لَوْ بَصُرَتْ.. سِواها الدَّهْرَ لَمْ تَنْبِسْ
وَلٰكِنْ قاتَلَ اللهُ.. “أَنًا” تَخِمَتْ مِنَ النَّـرْجِسْ
صَمَّامُ أَمانِها انْفَجَرْ، وَسالَ ما في نَفْسِها مِنَ الهَذَرْ، فَبانَتْ عَلاماتُ الخَدَرْ، وَلاحَ صَدْعُ رَأْسِها مِنْ نَفْثِ صَدْرِها سُمومَ جَهْلِها الـمُنْتَشِرْ، وَما أَجَنَّتْهُ زَمانًا وَأَرْخَتْ عَلَيْهِ السُّتُرْ، أَعْجَزَها سَتْرُهُ فَطارَ كَفَرْقَعَةِ الشَّرَرْ، وَعادَ عَلَيْها بِالضَّرَرِ وَالوِزْرْ، فَما لَها مِنَ الفَضيحَةِ مِنْ وَزَرْ، وَما يُثيـرُ العَجَبْ، جَهْلُها بِواجِبٍ وَما وَجَبْ، عَلى مَنِ انْتَسَبْ، لِلْحَرْفِ وَالأَدَبْ، وَزَعْمُها أَنَّها تُعاقِرُ الكُتُبْ:
يا ضَيْعَةَ الحَرْفِ قَدْ آذَتْهُ مُجْدِبَةٌ.. مِنَ التَّحَضُّرِ وَالأَخْلاقِ وَالأَدَبِ
أَرْدَتْهُ إِذْ وَلَغَتْ في مائِهِ سَفَهًا.. بِغَيْـرِ عِلْمٍ فَذاقَتْ شَرَّ مُنْقَلَبِ
رَمَتْ أَحْمالَ وَحْلِ جَهْلِها عَلى النَّاسْ، لِعَقْلِ عَقْلِها في لَيْلِ فَقْرِ فِكْرِها وَما دَهاها مِنَ الإِفْلاسْ، وَيَبابِ أَرْضِ حَرْفِها وَقِلَّةِ الإِحْساسْ، وَعَمـى البَصيرَةِ وَالبَصَرْ، وَجَهْلِها التَّفْريقَ بَيْنَ الرَّمْلِ وَالحَجَرْ، تَساوَتْ عِنْدَها أَحْوالُ القَدَرْ، فَالسُّرورُ كَالضَّـجَرْ، وَالصَّفْوُ كَالكَدَرْ، وَالغَيْثُ كَالـمَطَرْ، وَالعَمـى صِنْوُ النَّظَرْ، فَهِـيَ في ظَلامٍ مُسْتَمِرْ، وَلا تَدْري خَواءَها وَالخَوَرْ:
عَيْرِيَّةَ الفِكْرِ ما الآدابُ مَأْدُبَةً.. لِأُتْنِ رَأْسِكِ فَالآدابُ لِلْبَشَرِ
قَدْ قُدَّ عَقْلُكِ مِنْ صَـخْرٍ وَأَعْجَزَنا.. جِبْسُ العُقولِ فَكَيْفُ الحالُ بِالحَجَرِ
دَعـي الحُروفَ لِـمَنْ يَدْري قَداسَتَها.. وَخالِطي الهِيمَ بَعْدَ اليَوْمِ وَانْدَثِري
(-من كتاب “مَقاماتُ المَرْعي” الَّذي سيصدر قريبًا إن شاء الله).