الرق الأصغر والرق الأكبر «من رواية قنابل الثقوب السوداء»
تاريخ النشر: 08/04/21 | 0:20
حكمة: الرقُّ الأصغر أن امتلكك وأنت تعلم ، أمّا الرقُّ الأكبر فهو سلْب إرادتك وإن لم امتلكك.
فتح جاك التلفاز ليتابع الفرز النهائي لانتخابات الرئاسة الأمريكية، وجاء الإعلان بفوز جورج رامسفيلد الجمهوريّ لرئاسة أمريكا بفارق ثلاثة آلاف صوتًا عن نظيره الديمقراطيّ الحالي. ويظهر أمام جاك جورج رامسفيلد -الفائز- وهو يملأ الشاشة وحده ومن خلفه خريطة العالم مثبتة على الجدار، فجأة أصابه دوار رهيب فرأى على إثره دماءً تنزف من الخريطة وتصبّ في يدي الرئيس كالأنهار، فنهض من مكانه آخذًا الحذاء من الأرض وصرخ قائلاً: «لا، لا.» وضرب به وجه رامسفيلد فتحطمتْ الشاشة، وظلّ يضرب ويقول: «لا لا حتى تناثرت أشلاءً.»
وظلّ يلكم الجدار بكلتا يديه حتى شُجّ رأسه وسقط على الأرض من الإعياء، وظلّ طريحًا ينزف.
أمّا فهمان، فبعد أن سمع خبر الفوز سرح بخياله للوراء، وتذكّر قول جاك له عن هذا الرجل، وتوجّس شرًا عندما تذكّر قول جاك له: «يا فهمان، بعد الثورات ستتفكك الدول كلّها وتتقاتل فيما بينها، بعدها مباشرة تدخل القوات الأجنبيّة لتحترب على أراضيكم.»
فضربته الكلمة في أوعية قلبه، وخشي على مصر؛ فصرخ قائلاً: «مصادمي الذي أحلم به هو الحلّ، لابدّ من بنائه في مصر لتهويش القوى العظمى به، فمنه سأنتج قنابل الثقوب السوداء، سأنتج أبواق إسرافيل وأنهي على العالم بنفخة واحدة، سأن سأن سأنننننن.» ثقل لسانه ثم انهار وترنح جسده ولم تعد قدماه تتحمل ثقل جسده؛ فوقع على الأرض وهو يقول ودموع الخوف والملامة تمتزج: «من أنت يا فهمان؟ أين السلام الذي تحبه، لا والله، لن أصنعها إلّا من أجل قتْل إبليس المحرّض الأكبر عن كلّ شرّ يقع في الأرض، نعم نعم يا فهمان، لا تصنعها إلّا من أجل ذلك.»
أما قادة اتحاد المقاومة فبمجرد سماعهم الخبر زاغت أبصارهم، وبلغت قلوبهم الحناجر، وقال مؤيد وقد كان جالسًا وقتها مع عبد الشهيد -قائد نفق الوادي الجديد- :«الآن جورج، ومن قبله إسحاق، رحماك يا رب بأطفال ونساء فلسطين.»
قال بيتر وقد كان ثالثهم: «الانتخابات لُعب فيها لصالح رامسفيلد من أجل دولة إسرائيل الكبرى.»
وعلى أرض مصر نجد مهديّ يصرخ ضاحكًا لنتيجة الانتخابات، وهاتف المنسق العام عن الانتخابات الأمريكية قائلاً: «أهنئك على حسن إدارتك لعملية الانتخابات، وأرجو أن تقبل الهدية التي سأرسلها لك.»
فقال له المنسق: «وأنا شرفتُ باتصالك ولا داعي لأنْ تكلّف نفسك.»
– «لا تكليف ولا حاجة، إنّها هدية بسيطة، سأرسل لك عجينًا وملوخية وكوسة من أشهى وأطعم ما أنتج الطهي المصريّ في تاريخه، ألا تدري أننا بلد الكوسة قبل أن أحكم مصر؟!» قالها ثمّ أغلق الخطّ ورمى الهاتف في جدار الحائط بعد أن كفّ عن الضحك الساخر.
أما يعقوب فقد هاتف رامسفيلد قائلا: «لقد وفينا لك فأوفِ لنا.»
***
حكمة: قد يغشاك نور النجوم من مشكاتين صغيرتين
ظلَّ جاك -المشكاة الأولى- يتنقل على فترات متباينة بين كاليفورنيا وواشنطن، والسبب هو ما تقتضيه الحاجة من خلال عمله في ناسا ومتابعة دراسته الخاصة برسالة الماجستير. ولقد مكث أخيرًا فترة طويلة فيها ليتدرب على الرحلات الفضائيّة. أثناءها عاين كثيرًا المحركات الفضائيّة بكافّة أنواعها، وقطع الأمل فيها جميعًا؛ إذ رآها غير ذات جدوى للسفر إلى الفضاء البعيد، وقد عزم في قرارة نفسه على صنْع محرك قوي يستطيع أن يسير بسرعة كبيرة. كما عاين أجهزة الروبوتات وأجهزة دعم الحياة التي تصاحب رواد الفضاء في سفرهم. فوجد أن أجهزة دعم الحياة ضعيفة تكنولوجيّا، فقرّر أن يبتكر جهازًا أكثر تطورًا.»
وكان أشدّ ما يعشق ويتقن هو الرصد، يقوم على رصد النجوم بالمراصد الفلكيّة الأرضيّة الخاصة بناسا، ولقد أذهل علماء الفضاء والفلك في هذا الشأن.
ولإنّه حدّد موضوع رسالته حول النجوم والثقوب السوداء فكان يرصد كثيرًا، يدوّن كثيرًا، يحلل كثيرًا. ومن طرائف الأحداث التي مرت بجاك أنه كان خبراء ناسا يتكلّمون ذات مرّة عن مواضع الثقوب السوداء، فحضر جاك فطلب منه بَكْ الكلام.
فأخذهم جميعًا إلى المراصد الأرضيّة الخاصة بناسا ورصد وطلب بعض الصور المرسلة من تلسكوبات الأقمار الاصطناعيّة. وقام بفهرسة الصور، وقارن بينها وبين رصده، ووافق بينهما، وأخذ يشرح ويستفيض حتى بيّن لهم خريطة الفضاء كأنّه يشير إلي خريطة العالم الجغرافيّة بدولها وأنهارها وبحارها وغاباتها.. الخ.
كما حرص على زيارة مركز كيندي أكثر مِن مرة -وهو موضع إطلاق الصواريخ- وفي كلِّ مرّة يزوره يقول في نفسه: «من هنا، من هنا انطلق بمحركي الذي سوف يبحث لنا عن كوكب جديد يدعم الحياة.»
كما زار مرة واحدة المحطة الفضائيّة، وأقام فيها فترة قصيرة، وذاك للتدريب على الحياة في الفضاء، كما شاهد فيها الروبوتات المبرمجة على رحلات الفضاء المأهولة وغير المأهولة. ومما شاهد هناك روبوتًا يدعونه رواد الفضاء ب «إيريكا 300.» وهو يعلم أنّ إيريكا 300 في وكالة الفضاء اليابانيّة، فتملّكه الفضول فسأل أحد روّاد المحطة قائلاً: «لماذا أخرجتْها اليابان من وكالتها ووضعتها هنا؟»
فردّ عليه بعد ضحكة مشوبة بالعجز : «لقد صممتها وكالة ناسا كمحاكاة لروبوت اليابان.»
ثمّ سأله مجددًا: «مَن صمّمه؟»
– «ميتشو كاجيتا.»
لم ينتبه جاك للإجابة.وتركه محدثه على الفور.
ولمّا انتهت رحلته بالمحطة، نزل بكبسولة فضائيّة، واخترق الغلاف الجويّ بمهارة منقطعة النظير، وكان معه وقتها رائد واحد قد اخترق الغلاف أكثر من ثلاث مرات، فتعجّب لقدرة جاك المذهلة على اختراقه، وأراد أن يتبيّن منه شيئًا فسأله: «جاك، هل هذه أول مرّة تخترق الغلاف الجويّ؟»
فردّ: «نعم.»
فذُهلَ الرجل حتى قال فيما بعد عندما سُئل عن جاك: «لقد ظللتُ أسبوعًا نسيت فيها نفسي وأهلي مِن دهشتي من هذا الرجل، كان يخترق الغلاف الجويّ بالكبسولة كأنّه يهبط بمنطاد على بعد خمسة أمتار، لتسعد أمريكا وتهنأ به.»
ألمَّ بكلّ هذا، وجمع هذه الخبرات، وعزم على التوسّع في دراسة المحركات والملاحة الفضائيّة وميكانيكا المدارات. ولم يهملْ دراساته العليا، فاستمرَّ في المتابعة على حضور جلساتها والتواصل مع مشرف رسالته الذي ضجَّ منه بسبب توسعها وغموضها، مما اضطر إلى إسناد أمر رسالته إلى زميل له ليساعده في الإشراف عليها -ولاحقًا سوف يثير قضايا غير مألوفة في رسالته فضلاً عن شهرته التي بلغتْ عنان السماء- مما دفعه ودفعهم أيضًا إلى الالتفاف حول الرسالة وإشراك أكثر من مشرفيْن.
علا نجمه وأصبح حديث وكالة ناسا، وخوفًا على أمن الولايات المتحدة قررتْ الحكومة الفيدراليّة والسي آي أي حراسته، فأرسلتْ حرسًا له مِن المهام الخاصة ومعهم روبوت متطور لأداء نفس المهمة.»
وفهمان -المشكاة الثانية- يؤدّي نفس الطقوس، يباشر العمل على المصادم FCC-1 كما أنّه يستعين بعدة مراجع لكتابة رسالته، ويباشرها مع المشرف.
ولقد ذُهل المشرف من كمّ الأطروحات الجديدة الخاصة ب FCC-1، والتي تتضمن تعديلات خطيرة جدًا لزيادة كفائته، لكنّها صعبة التنفيذ. ففي المصادم، مارس مع وليم كثيرًا مِن عمليات الارتطامات وسجّل الكثير مِن الاكتشافات عبر الكواشف. ولقد تأكد وليم من عبقرية فهمان الأسطورية، وأكثر ما أعجبه منه هو تبلور الأفكار بداخله كأنّها تأتيه بمجرد التفكير فيها. ولم يجعل فرصة العمل مع فهمان تمرّ عليه بدون فائدة علمية، ولذلك لم يهدأ مطلقًا منذ أن خبّره فهمان بأمر العبور إلى الشيطان، لذلك أصر على معرفة الطريقة،
فقال لفهمان: «أرني كيف تصل إلى إبليس؟»
رد: «أستاذي، إمكانيّات FCC-1 ضعيفة ولن تسمح بذلك.»
– «فهمان، هل من الممكن في ضوء هذه الإمكانات الضعيفة أن تفعل شيئًا ولو بضع خطوات؟ أرجوك؛ فإني في شوك للقاء هذا المرجوم.»
– «مستحيل.» صمت هنيهة متفكّرًا ثمّ قال: «من الممكن أن أريك جسر عبور بوابة من بوابات العالم الآخر، هذا كل ما أستطيع فعله الآن.»
– «خسارة، سأحرم من شرف مقابلة هذا الملعون الآن، عامة أرني البوابة.»
– «سنرصد الجرافيتون، ونرصد جهة هروبه، عندها قد نرى البوابة.»
– «أرجو أن نرى بوابة ذاك الملعون.»
– «وقد نرى بوابة عالم الملائكة.»
– «لقد شوقتني.»
– «سنقوم بعدّة ارتطامات على FCC-1 حتى تستطيع أن ترصد منطقة هروب الجرافيتون، اتّبعْ بعينيك المسار وستجد البعد عندها، طبعًا أقصد تدوين المجس لمكان الجرافيتون.»
– «حسنا.»
– «سيدي وليم، قفْ هنا عند هذا الكاشف، وانظرْ بنفسك بهذا التلسكوب، سنؤدّيا التجارب بكامل طاقة FCC-1 وهذا كما تعلم قد حذّر منه فيزيائيو سيرن.»
ووقف وليم بالفعل حيث أشار فهمان.
توجّه فهمان مباشرة الى المصادم، وأطلق حفنة البروتونات، ومرّت 19 دقيقة، وبدأ العدّ التصاعديّ للدقيقة الأخيرة ..1ث ،2ث ، .. 58 ث، 60 ث ارتطام ..
نظر وليم فلم يرصد شيئًا، فقال: «فهمان لم أرَ شيئًا.»
– «سيدي، لقد هرب من ناحية غير التي نظرت إليها، تحلَّ بالصبر حتى يقع نظرك على مسار هروب الجرافيتون.»
وأُعيدتْ التجربة، ومرّت العشرون الدقيقة، وحدث الارتطام، وفجأة، سقط وليم مغشيًا عليه بعد أن جذب الجرافيتون بنطلونه وقطعة من شورته الداخليّ.
هرع إليه فهمان وأفاقه، وفور وقوفه لطم فهمان وهو يواري سوءته، وقد كاد جسده يتجمد لحظة تمزيق بنطلونه.
انتظر فهمان حتّى يستدفئ وليم ويملك أعصابه ثمّ قال له: «سيدي وليم، هل أنت بخير؟ الحمد لله.» صمت برهة ثمّ قال: «ماذا رأيت سيدي؟»
فقال وليم: «كدتُ أموت يا ثلاجة -فهمان- رأيتُ طائرًا ضخمًا كالجبل، وقد حاول العبور إلينا، لكن انهار الجسر بسبب تلاشي الثقب.»
– «سيدي، لقد جذب الجرافيتون بنطلونك و ..ولقد رآنا هذا الطائر عبر جهة هروب الجرافيتون إلى كونه، وقد كان كون طيور عمالقة، الطائر منهم بالحجم الذي رأيته، ولو استمر تدفق الجرافيتونات بضعة فيمتو ثانية لعبر هذا الطائر والتهمنا، ثمّ جرى ليأكل ويهدم كلّ ما يراه. أمّا سبب البرودة التي حلّت بجسدك؛ فإنّ هذا الكون بارد جدًا بدرجة لا نهائية، فقد تصل الحرارة فيه إلى مائة درجة تحت الصفر المئويّ.»
وهرول وليم خائفًا من المكان، بينما فهمان رأى رجلاً يحمل الملامح المصرية يركز بصره عليه، فتعجب من شأنه، ولكنه لم يكترث له.
أصبح وأمسى جاك وفهمان حديثا العالم، بيد أنّ جاك شهرته كانت أوسع انتشارًا. مرَّ ما يقرب مِن سنة ونصف وقد اكتسب فيهما جاك وفهمان خبرة كبيرة أُضيفت إلى عبقريتهما الإبداعية. وقد أعدّ الاثنان رسالة الماجستير الخاصة بكلٍ منهما، وحُدد موعد مناقشتهما.
بقلمي: إبراهيم أمين مؤمن