كلمات في القيادة (3)
تاريخ النشر: 22/04/21 | 11:45محمد إبراهيم سواعد- ابن الحميرة
تعرف عظمة القائد وحنكته في المجتمع بقدرته على إدراك أبعاد الأمور وخفاياها قياسا على ظواهرها وشواهد التاريخ والسنن الربانية في الكون؛ حيث أن عوام الناس طبعوا على النظر إلى سطحيات الأحداث وشكلياتها، أما أهل العلم والقادة فيسبرون غور الأحداث بناء على ما أوتوا من العلم والمعرفة والتجربة ليخرجوا إلى مجتمعهم بخيرة تجاربهم ومعرفتهم.
ومن أروع المواقف التي تكشف لنا أهمية العلم في قيادة الجماهير هي موقف أهل العلم في قصة قارون التي وردت في سورة القصص؛ حيث خرج قارون على قومه في زينته وخيلائه، فاغتر الناس بملكه وسلطانه وراحوا يتمنون لأنفسهم مثله (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) القصص، فالآيات تبين لنا مواقف الناس حسب علمهم وإدراكهم، فقارون صاحب الملك والسلطان اجتهد ليستهوي قلوب الضعفاء والمساكين ويستغويهم بملكه وماله، فاستجابوا لذلك وانجذبوا نحو الملك والسلطان وأصبحوا يتمنون مثل ما لقارون (قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، ونجد هنا الموقف الحازم لأهل العلم الذين تصدروا لقيادة المجتمع في تلك اللحظات الحاسمة؛ فقالوا بوضوح وقوة للفقراء والبسطاء من الناس؛ (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ)، فنجد أن العلماء ردوا على الناس بقوة وابتداء النص بقوله تعالى (ويلكم) فيه نوع من الزجر والرد الحاسم على لعاع الدنيا الذي بدأ يسيل من قلوب الضعفاء والمساكين، ثم يكمل أهل العلم توجيههم (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ)، فالعلماء هم أصحاب كلمة التوجيه والتربية في المجتمع وهم أبصر من عوام الناس بمآلات الأحداث وعواقبها، وما هي إلا أيام قلائل حتى اصبح الذين كانوا بالأمس يتمنون ملك قارون ومنصبه يحمدون الله تعالى أنهم لم ينالوا مثل ما نال قارون حتى لا يصيبهم ما أصابه (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)، فعوام الناس حمدوا الله تعالى على فقرهم ومسكنتهم ولكن بعد أن رأوا عاقبة الأمر وهلاك الطغاة بينما العلماء أهل الدراية والبصيرة أدركوا ذلك قبل أن ينزل بالقوم.
فالعلماء والمصلحون هم قادة الرأي في المجتمعات والتنظيمات وهم من يدرك ويسبر غور الأمور قبل وقوعها وعليه واجب التحذير والبيان والزجر للناس قبل وقوع الأحداث، قال الحسن البصري رحمه: (الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم وإذا أدبرت عرفها كل جاهل)، لذا كان عليهم لزاما أن يصرخوا في المجتمعات وفي البشرية جمعاء بصوت عالٍ جهور قبل وقوع الفتن ونزول المصائب.
الملاحظ في زماننا أن الكثير من الناس لا يدرك أهمية الوعظ والإرشاد ويسعى دوما أن يجرب الأمور بنفسه متناسيا تجارب الآخرين والعبر التي وردت فيها ويظن نفسه أذكى وأحكم ممن كانوا قبله وأنه لن يصيبه ما اصابهم وهذا من شدة الغرور الذي أغلق القلوب وغلفها عن قبول النصيحة والسعي للاستفادة من تجارب الآخرين، وهؤلاء يسعون في الأرض فسادا ويظنون أنهم بمأمن من عقاب الله وسننه التي أصابت ما أصاب من قبلهم (فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ۚ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ۚ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَٰؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (51)، الزمر.